علاقة عشقٍ هائمة بين التسوق وعقارب ساعاتٍ تهذي دوراناً، تسمَّرٌ أمام المرآة بين أعتى بيوت التجميل العالمية الجائلة بين باريس وروما، متابعاتٌ حية لعمليات (التجميع) من سانتا كروز حتى ساوباولو و وتريس لاغواس، يعرفن كل شركات (تصنيع) التجميل ومنتجعات عمليات الشد والربط...، غرقٌ بين النت وتفرعاته واحتفالات وسهرات بتفرغ دوام يومٍ كامل!
إنهن (بعضٌ) من أمهات اليوم أسفاً، بعضهن لا تعرف متى ينام أطفالها أو يصحون؟ ظناً منهن أن ليس لديهن وقت كافٍ فهن مشغولات دوماً! بعضهن متعلمات تربويات، تتألم متذمرةً من عدم جاهزية طالباتها في الصف، ولا تستطيع أن تتابع لنصف ساعةٍ دروس طفلها!
ومربط فرسٍ دامٍ.. الآباء، فحالهم يزداد سوءاً بعد قولبتهم وبتغييب اجتماعي زمني بقيام الزوجة بكل (عمليات) الحياة، وأن أسس تلك الدورة تبدأ من الأبناء، وقصة هيامٌ بأطرافها بين المقاهي والاستراحات حتى مدخل المنزل، و لسان حالهم .. إنه إنهاك عملٍ ومتطلبات حياةٍ وقوامة رجل !.
ابتلعت معرفتي يوماً عندما وجـدت أن أغلب نجاحات التعليم الياباني وراءها جهود وتضحيات (أمهات التعليم) اليابانيات، أو كما يسمونهن كيوكو ماما، أمهات جاهزات فنياً وتربوياً لتقديم الدعم والعون المحمود. جاهزية الأم اليابانيـة لم تأت إلا بعد إيمانٍ برسالتها، إحساسها مرتبط بأهميتها الشخصية بإنجازاتها نحو تفوق أطفالها تعليمياً وتربوياً، فهي تبذل جهوداً جبارة في مساعدتهم، وتعرِّض نفسها إلى ضغط تنافسي كبير نحو المسؤولية الفردية والجماعية في آن معاً. المجتمع الياباني شارك في مثالية وعظمة الأم بنظرته الشاملة نحو مجتمع ومستقبل قويم وجيل يتخرج كل عام من تحت عباءة الإبداع التي تكمن في تفوق أبنائها وتحصيلهم الدراسي، لذلك لا نستغرب عندما نجد تخرج طلاب الثانوية اليابانيين سنويّاً (وبكل جدارة) بنسبة عامة لا تقل عن 90% وهي المرتبة الأولى عالمياً.
لذلك لن نستغرب نتائج الصدارة السنوية، فوراء كل طالب ياباني متفوق دراسياً أمٌّ داعمة ومتخصصة في تعليم أطفالها، فهي تدرسهم، تعد لهم الطعام، وتنتظر ساعات لتسجل طفلها في الامتحانات، تنتظره في الممرات على عجل حتى انتهاء اختباره، تحرم نفسها ( غريزة ) التسوق، تعتزل التلفزيون كي يدرس بهدوء، وتطبخ (النودلز) له في الساعات المتأخرة من الليل، تنقل أبناءها الصغار من درس لدرس، ومن نشاط إلى نشاط، تساعدهم على أداء واجباتهم، توفر متطلباتهم، وتلحقهم ببرامج (الجوكو) الثقافية بعد المدرسة، وتحرص على الجلوس بالصفوف الأولى في مقاعد برنامج ودورات (إعداد الأمهات).. كل ذلك كي تستطيع توفير تعليم منزلي مساعد أنموذجي.
الدراسات التربوية الحديثة أثبتت أن الفرصة التي تقدمها البيئة المنزلية العظيمة بالنسبة للأبناء تمكنهم من التعايش في بيئتهم الافتراضية التعليمية، بل حتى الاستفادة بذلك في طريقة الاستجابة للتعليم، كما ذكر الباحث الأميركي في رعاية الطفل دكتور سبوك: " إن كلاً من الأب والأم هو قائد في ساحة تربية أبنائه، والقائد يدرب جنوده عملياً على أساليب الحياة بثقة واقتدار، وإذا كنا كآباء وأمهات نعيش في موقف القيادة رغم أنوفنا فمن اللائق أن نتعرف على مهامنا حتى نربي أبناءنا، بدلاً من أن يكونوا مجرد ضحايا".
أمهات وآباء أجيال ماضية – ليسوا عنا ببعيد - كانوا يضاهون (كيوكو ماما)، فلنتذكر كيف كانت الأم تصحو مبكراً قبل الجميع، لتجهز يوماً كاملاً يمتلئ تفاؤلاً ومستقبلاً بطهر الأرض مع بزوغ الشمس وصدح آذان الفجر، أمهاتٌ كان لهن رسالة وأهداف، حتى لو باللهج بالدعاء لأبنائهن وليس عليهن!، وكيف كان الأب يعيش متابعةً يومية لدراسة أبنائه، يشاركهم واجباتهم، أنشطتهم، همومهم، حتى وجدنا أباءً لا يعلمون أين يدرس أبناؤهم ! وفي أي مرحلة هم، ولم يعلموا قبلها واجبهم نحو واقعهم وما بعده!.
لست هنا مدعياً على (بعض)ٍ من أبناء وبنات جيلي، ولكنها فجوةٌ تزداد عمقاً في تربيتنا لأجيال اليوم، في هذا اليوم انظروا كم مئة ألف خادمة في منازلنا؟ اسألوا من حَوّل تلك الخادمة بتفويضٍ وتقويضٍ تربوي إلى أمهاتٍ بديلات، بدءاً من إسكات صرخات طفلٍ حتى ضمه في أحضانهن ليناموا نومةً ارستقراطية لكنها أسفاً على صدور (مستأجرة)! ذلك جزء من حقيقة (رعايةٍ) لا يفرق البعض بينها وبين التربية.