عند الحديث عن الحارة الشعبية وما يعتمل في محيطها من صراع الخير والشر، وتنازع الفضائل والرذائل، بأبعادها الحقيقية والمجازية، في عالم الحارة حيث التكايا والأناشيد والزوايا وحياة الصخب والعنف، وحيث الموت والميلاد وسعي الحياة للمهمشين وتاريخ أجيال الفتوات وحياة الصعاليك،
في مزاوجة بين الحلم والواقع، نجد أن الحارة تجسدت في مشروع نجيب محفوظ الروائي حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منه وعلامة مسجلة باسم نجيب محفوظ لا ينافسه فيها أحد، ومن خلال الحارة الشعبية تمخضت فلسفة نجيب محفوظ ونظرته الشاملة في قضية الحياة والموت ومصير الصراع التراجيدي بين الخير والشر والعنف والسلام.
قدم نجيب محفوظ أدبا خاصا به يعد أهم إبداعاته ومنجزاته الأدبية، أدب الحارة الشعبية بكل ما يدور فيها من أحداث وتناقضات وصراعات نفسية واجتماعية، ومن خلال هذه الحارة الشعبية الغارقة في مصريتها انتقل نجيب محفوظ للعالمية وصارت حارته المصرية تجسد العالم حتى صار الجميع يريد محاكاة هذه الحارة الشعبية، ويريد أن يكرسها في محيطه وثقافته.
اعتاد نجيب محفوظ أن يخلد المكان ويجعله بطلا تدور في محيطه الأحداث، فقد حملت رواياته عناوين مثل خان الخليلي وزقاق المدق وبين القصرين والسكرية والكرنك وميرامار، فكانوا أبطالا لا يقلون أهمية عن شخوص رواياته. فكيف استطاع نجيب محفوظ أن يؤثر في الدراما والرواية العربية؟ لا أحد يشك بأن محفوظ كان رائدا في عالم الرواية العربية، وتأثيره لم يقتصر على وطنه مصر بل تجاوزه نحو الخليج والدراما الخليجية، فنحن اليوم لا نزال نشاهد نجيب محفوظ ماثلا أمامنا بحارته الشعبية بعد أن تشكلت وتلونت بأشكال مختلفة على أيدي روائيين وكتاب من منطقة الخليج.
تأثيره المباشر أو غير المباشر لا تغفله العين في قصص سعودية جعلت من الحارة الحجازية أو الحارة النجدية خلفية قصصية لحبكة الرواية، وأصبحت القصة السعودية تحمل عناوين الشوارع والأحياء. وعلى غرار القاهرة القديمة فإننا اليوم نقرأ روايات جعلت من مكة القديمة وجدة القديمة والرياض القديمة مسرحا لأحداثها، لمحة سريعة على روايات شهيرة ستجد نفسك تتجول في زقاق «أبو الروس» في مكة المكرمة وشارع العطايف والشميسي والكراديب، وكلها تحمل الطابع الشعبي للحارة القديمة في رسم شخصياتها وتبحرها في أعماق تلك الحارات والأزقة.
وفي ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ انتشرت شخصية الفتوة وأصبحت مادة دسمة في السينما والتلفزيون، وصنعت أفلاما ومسلسلات عديدة تحكي قصص الحرافيش والفتوات وصراعاتهم في سبيل فرض نفوذهم وهيمنتهم على أهالي الحارة.
وفي المسلسل الدرامي «العاصوف» آخر ما أنتجته الدراما الخليجية حول الحارة الشعبية، فنحن أمام عمل لا يخلو من التأثر بأدب محفوظ وحارته، فكل ما تقرأه في روايات نجيب محفوظ ستجده في العاصوف بشكل أو بآخر، فقد استهل نجيب محفوظ رواية الحرافيش بمشهد الطفل اللقيط الذي ينتشله الرجل الوقور من الشارع وهو عائد بعد صلاة الفجر، وترعاه زوجته بعد أن تعاطفت معه.
شخصية زنوبة في «بين القصرين» وحميدة في «زقاق المدق» التي تتمخطر في الأزقة بدلال وتغنج، وشخصية أمينة زوجة سي السيد وبناتها الباحثات عن الزواج، وابنها الذي يغازل محبوبته فوق السطوح، تفاصيل غرف المنزل، البيوت، خصائصها المعمارية، طراز الأثاث، جغرافية المكان، الشارع، الحي، أهالي الحارة، الدكاكين والمقاهي والمارة، الباعة المتجولون وهم يصيحون لجذب الزبائن لبضائعهم، هذا هو ميدانه الذي نثر فيه شخصياته الروائية بكل ما تحمله من مشاعر ونزوات، بتكوينها النفسي وجذورها الذهنية ووضعها الاجتماعي ومشكلاتها الملحة.
عالم الحارة الشعبية الذي انفرد به نجيب محفوظ تشعر به ماثلا أمامك في مسلسل العاصوف حتى لو تنكر بالزي السعودي واختبأ بين بيوت الرياض القديمة، فإن آثار نجيب محفوظ ولمساته لا تزال حاضرة في العقل الباطن لهذا العمل الدرامي. فأغلب الأعمال التلفزيونية والروائية التي جعلت من الحارة الشعبية مركزا لأحداثها، تلحظ فيها لمسات نجيب محفوظ قابعة بين السطور، وهذا ما يجعلني أشعر بأن حارة العاصوف بأزقتها وبيوتها وما يعتمل داخلها من أحداث ليست في الحقيقة إلا حارة نجيب محفوظ بعد أن تمت سعودتها.