أشرتُ في مقدمة مقالتي «التطرف، وسلوكيات هامشية خطرة» في العدد «6321» من صحيفة «الوطن»، إلى أن بعض التويتريين، يستخدم كلمة «استشراف»، والتي تعني في بعض معانيها حسب السياق والاستخدام، ادعاء الشرف والفضيلة، ضد بعض الذين يتبنون موقفا مغايرا لما هم عليه من سلوك وسمات تتضح جليّا خلال تغريداتهم.

ومع التحفظ على الاشتقاق اللغوي، إلا أن ظاهرة الاستشراف كانت متفشية بشكل كبير فيما مضى، إذ استخدمها بعض أفراد المجتمع من غير المتدينين لإثبات الحب والولاء للدين وأهله من باب: أحب الصالحين ولست منهم، أو حتى لتغطية المعيب اجتماعيا من تصرفاتهم وأفعالهم... إلخ.

ولا يوجد معنى لغوي لكلمة استشراف يوافق المعنى المتداول في سياق الطرح التويتري آنف الذكر والذي يعني طلب الشرف، والذي هو العلو والمكانة والذكر الحسن والسمعة الطيبة بين الناس، إذ يقول العلامة ابن منظور في لسان العرب «61/‏8، صادر»: «الشَّرَفُ: الحَسَبُ بالآباء، شَرُفَ يَشْرُفُ شَرَفاً وشُرْفَةً وشَرافةً، فهو شريفٌ، والجمع أَشْرافٌ. وقد شَرَفه وشَرَفَ عليه وشَرَّفَه: جعل له شَرَفاً؛ وكل ما فَضَلَ على شيء، فقد شَرَفَ».

ونقل -رحمه الله- عن الجوهري كلامًا يَسَعدُ به القائلون: إن معنى الاستشراف بهذا الاشتقاق وهذا المبنى الكلمي، يعني فيما يعني طلب الشرف لغير الشريف، بادعاء مالا يفعله، وفعل ما ينهى عنه، على غرار القاعدة القرآنية «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم»، وعلى اختلاف المفسرين في البر المقصود تحديدا في الآية الكريمة، إلا أنهم أجمعوا على أن كل طاعة لله فهي تسمى بِرّا، كما نقل ذلك الطبري -رحمه الله- في تفسيره، والآية الكريمة كما هو معلوم جاءت في حق اليهود، غير أنها منطبقة على كل أحد، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

يقول الجوهري فيما نقله عنه ابن منظور في اللسان «وشَرَّفَه اللّه تَشْريفاً وتَشَرَّفَ بكذا أَي عَدَّه شَرَفاً، وشَرَّفَ العظْمَ إذا كان قليل اللحم فأَخذ لحمَ عظم آخرَ ووضَعَه عليه؛ وقول جرير:

 إذا ما تَعاظَمْتُمْ جُعُوراً، فَشَرِّفُوا

جَحِيشاً، إذا آبَتْ من الصَّيْفِ عِيرُه

قال ابن سيده: أَرى أَنَّ معناه إذا عَظُمَتْ في أَعينكم هذه القبيلة من قبائلكم فزيدوا منها في جَحِيش هذه القبيلة القليلة الذليلة، فهو على نحو تَشْريفِ العظْمِ باللَّحم».

وهنا، كما ترى أيها القارئ الكريم، فإن المعنى المراد لقبيلة التويتريين متعين في لفظة «شرَّف» والتي تشير إلى الأخذ من الكثير ووضعه على القليل لتكثيره، كما يفعل أولئك الرهط الذين يبيضون سواد صفحاتهم بتسويد صفحات الآخرين بأي طريقة كانت، ويعاظمون لأنفسهم المكانة بالحط من الآخرين، والاستكثار من مشابهة من يظنون أن المجتمع سيرفعهم إلى مكانتهم.

والكلمة بهذا المبنى جاءت في عدة مواضع لغير المعنى الذي بين أيدينا، ففي حديث عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: «أُمِرْنا في الأَضاحي أَن نَسْتَشْرفَ العين والأُذن»، ومعنى ذلك أن نتأَمل سلامتهما من أي آفةٍ تكون بهما، قال ابن منظور «وقيل: اسْتِشْرافُ العين والأُذن أَن يطلبهما شَريفَيْن بالتمام والسلامة، وقيل: هو من الشُّرْفةِ وهي خِيارُ المال أَي أُمِرْنا أَن نتخيرها.

وتَشَرَّفَ الشيءَ واسْتَشْرَفه: وضع يده على حاجِبِه كالذي يَسْتَظِلُّ من الشمس حتى يُبْصِرَه ويَسْتَبِينَه.

والاسْتِشْرافُ: أَن تَضَع يدك على حاجبك وتنظر، وأَصله من الشرَف العُلُوّ كأَنه ينظر إليه من موضع مُرْتَفِع فيكون أَكثر لإدراكه.

وعودة على اصطلاح التويتريين لكلمة»استشراف«، والمشتقة من كلمة شرف، والذي يجري معناه في الكلام المحكي والدارج في معاني الأمانة ونظافة اليد والسلامة من الموبقات، كبيرها تحديدا، وربما زاد معنىً آخر في حق المرأة كما في بعض المجتمعات وهي السلامة من الزنا، وإن كان هذا المعنى انتشر بسبب انتشار صناعة السينما المصرية، والتي نقلت هذا المعنى حتى عمَّ.

وإني في التالي من السطور سأوجه بعض الكلمات إلى أولئك الشرذمة غير القليلين من القائلين بما لا يفعلون ولا يعتقدون، والفاعلين لكل رذيلة تخالف ما في أقوالهم من فضائل يحاربون بها أبناء مجتمعهم، ظنَّ سوءٍ، وشكًّا وتشكيكًا، فأقول، وعلى الله التكلان:

إن العاصي الناصح -وسعنا الله بجليل مغفرته وأضفى علينا جميل ستره- خيرٌ من العاصي الساكت أو الداعي إلى فجور أو فسق، وهذا لا جدال فيه، غير أن شر الناس وأفجرهم، ذلك الذي يوظف قوله وفعله وغمزه وهمزه ولمزه لتشويه الآخرين، وقذفهم بكل نقيصة، بسبب فعل قد يسعه الخلاف الفروعي الفقهي أحيانا، أو يسعه الخلاف في الرأي، وهو واقع في كبائر المخالفات وعظائم المخالفات، وهؤلاء الشرذمة لا يعوزهم الدليل على شناعة فعلهم وقبح قولهم، وهم سرعان ما يؤمنون بالحق إيمانًا نظريًا، ولكن ما يشدهم إلى الوراء هو التحلل والتفسخ اللذين استمرأتهما أنفسهم، باجتراح السيئات الكبار التي تغضب الرب تبارك وتعالى، وتشوه السمعة عند الناس وفي المجتمعات، فيلجؤون إلى حيلة قذرة لعلها تغطي بعض نتن أعمالهم، وهي رمي المخالفين بكل نقيصةٍ هم يفعلونها، دون التثبت أو التبين، أو استجلاء ما وراء قول أو فعل المرمي بالبهتان والظلم.

فهم دائما لا يجدون في أفكارهم ورصيد أعمالهم وسلوكهم ما ينجدهم للتخلص من سلطان نفوسهم الأمارة بالسوء، وسلطان جريرتهم، ومع هذا يذهب ليعمق إثمه وفسقه وفجوره برمي الناس بالبهتان والانتقاص، ليلمع صفحته أمام الناس ويجلو وسخها، وهي عند الله تزداد سوءًا إلى سوء، وقبحا يتلوه قبح.

وكما أنه لا يعوز مسلم اليوم الدليل الشرعي والوعي الفقهي والسلوكي، فيما يأخذ ويدع، فلا أحد من المسلمين اليوم يعوزه الدليل على حرمة الخمر أو الزنا أو الربا، أو حرمة التحرش، إلا ما ندر وشذّ، وهما لا حكم لهما، وكذلك الغيبة والبهتان والقذف، ومع ذلك تجد مقترفي هذه العظائم غير قليل من أبناء الإسلام، فأين الخلل إذًا أيها المستشرفون؟!

مشكلة الاستشراف، ومشكلة اقتراف كبائر المعاصي، لا تتعلق بالقناعة أو الفكر، بل هي قضية أخلاق في المقام الأول، والغريب أن منا من يستشعر خطر هذه المشكلة، ويعلم أن المشكلة ليست في القناعة أو الفكر، ومع ذلك تجدهم يعالجون الوضع بمزيد من الأبحاث والدراسات والنظريات التي تدعم الجانب الفكري، وكأن المشكلة عقدة جهل مستحكمة بالعقل، وليس مرضا خطيرا تعانيه النفس. ليس بنا اليوم حاجة إلى مزيد من الدراسات، فنحن بتنا نملك من الوعي الكافي في هذه النواحي ما ينسج لنا حصانة ضافية، لو كانت القضية والمسألة موكلة إلى الوعي وحده، ولن يكون التنفيذ بيد الفكر أو العقل وحده، إنما ما نحن بحاجة إليه هو تلك القوة الهائلة الدافعة للتنفيذ، ولن يكون التنفيذ بيد الفكر أو العقل وحده، إنما القوة الهائلة التي نحتاجها هي قوة الأخلاق!

يقول الحق تبارك وتعالى:»وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا»، لقد وجد أولئك القوم المشار إليهم في الآية، اليقين الفكري، غير أن الجحود السلوكي خنق ذلك اليقين بدافع كبرياء النفس وعلوها، ولهذا علينا تجاوز المأزق السلوكي والأخلاقي أولا، حتى تحل المشكلة حلًا سليمًا كاملًا.

أخيرًا، من أغلق عليه بابه وبكى على معصيته، وستر نفسه، وترك عباد الله لله، قمينٌ بالستر والمغفرة والمعافاة.