كما كان متوقَّعًا بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، أعلنت الإدارة الأميركية -الإثنين الماضي- إستراتيجيتها الجديدة تجاه النظام الإيراني، وركزت المبادئ الأميركية الجديدة على 3 محاور رئيسية، مبادئ متعلقة بالشأن الثنائي الإيرانيّ-الأميركي، خاصة ملف المعتقلين الأميركيين من أصول إيرانية، وملفات إقليمية تشمل عدم تدخل إيران في الشأن الداخلي العراقي، واحترام سيادة العراق، وأيضا حضّ إيران على التوقف عن دعم الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في المنطقة، والانسحاب من سورية والتوقف عن تهديد دول الجوار، وإطلاق الصواريخ على السعودية والإمارات.
وهناك مبادئ دولية، أبرزها كشف النظام الإيراني للنشاط النووي بجميع مُنشَآته، والتفتيش غير المشروط والمفاجئ لجميع المُنشَآت الإيرانية التي تحوم حول نشاطها الشكوك، وإغلاق مفاعلات إنتاج المياه الثقيلة، ووقف تخصيب اليورانيوم، وتعليق برنامج تطوير الصواريخ الباليستية، وكذلك التوقُّف عن دعم الجماعات الإرهابية، منها القاعدة وطالبان وغيرهما.
تحدث وزير الخارجية الأميركي، بعد إعلان القرار الأميركي الجديد، أن بلاده ستفرض عقوبات جديدة أشد صرامة على النظام الإيراني، وأنه توجد مساع لتشكيل تحالف جديد ضد إيران، دون كشف مزيد من التفاصيل عن طبيعة ومهام هذا التحالف.
أيضا من غير المستبعد أن تصدر قرارات أميركية جديدة مصدق عليها من الكونجرس الأميركي تتعلق بالنشاط الإيراني وبرنامجه النووي وسلوكه في المنطقة.
المتابعون لتطورات الملف الإيراني-الأميركي حاليا، تتجه أنظارهم أولا إلى الجانب الإيراني وطبيعة رد فعل النظام على التصعيد الأميركي الراهن.
ومن المتوقع أن تكتفي طهران حاليا بالتقليل من أهمية هذا الموقف الأميركي، واعتباره استمرارا لعداء «الشيطان الأكبر» تجاه «الجمهورية الإسلامية» و«محور المقاومة»، وسيحاول النظام توحيد الجبهة الداخلية خلال الفترة القادمة، ولكن ذلك لن ينجح بسبب التذمُّر الشعبي الكبير في الداخل الإيراني، والاحتجاجات المستمرة بمعدل 15 مظاهرة يوميا، وأيضا في ظل الاحتجاجات العنيفة والمتواصلة في منطقة كازرون وسط إيران. أيضا سيحاول وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، القيام مجددا بجولات مكوكية، تشمل: الصين وروسيا وبعض الدول الأوروبية، للحصول على موقف مؤيد لطهران ويدين الموقف الأميركي التصعيدي.
وعلى المدى المتوسط، وفي حالة تفعيل واشنطن العقوبات المفروضة على طهران ورفع وتيرة الضغوط عليها، فمن غير المستبعد أن يسعى النظام الإيراني إلى أن ينفذ عبر أذرعه المختلفة عمليات في بعض الدول الأوروبية، تهدف إلى لفت الأنظار بعيدا عن الملف الإيراني، والتركيز على ضرورة محاربة الإرهاب والتصدي له.
أما الموقف الأوروبي، فسيكون في الغالب مركزا على التزام تلك الدول بالاتفاق النووي رغم الانسحاب الأميركي، وهذا موقف سياسي ودبلوماسي متوقع، لكن سيصعب على الشركات في تلك الدول الاستمرار في التعامل التجاري مع إيران، أو بدء مشروعات استثمارية جديدة هناك، وقد وجدنا كثيرا من المؤشرات التي تؤكد انسحاب بعض الشركات الأوروبية من إيران، أو تجميد أو إعادة تقييم التعامل مع إيران.
روسيا، الحليف الأقرب لإيران، ستقف سياسيا ودبلوماسيا مع الجانب الإيراني، لكنها ستكون مستفيدة بشكل كبير من العقوبات الاقتصادية التي ستُفرض على إيران، خاصة في قطاعي النِّفْط والغاز، لأنها ستحصل على حصة أكبر من الأسواق العالَمية، وستكون أكثر طمأنينة فيما يتعلق باعتماد كثير من الدول الأوروبية على الغاز الروسي، الأمر الذي كان مقلقا لموسكو بعد الاتفاق النووي، خشية اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الإيراني بدلا من الروسي.
كذلك في سورية، سيكون تراجع الوجود الإيراني في الداخل السوري أمرا مُرحَّبا به روسيًّا، في ظلّ رغبة روسية حقيقية في تحجيم النفوذ الإيراني هناك، وعدم الوصول إلى نقطة تشابك مع إسرائيل في ظل العمليات العسكرية المتبادلة بين تل أبيب وطهران من أو على الأراضي السورية.
وإذا ما تحدثنا عن موقف التنين الصيني، فالواقع يقول إن بكين تعتمد على إستراتيجية براجماتية مرنة للغاية، وقد استشرفت الصين الموقف الأميركيّ وبدأت بالفعل تخفيض وارداتها من النفط الإيراني، الأمر الذي وصفه الإعلام في إيران بـ«الخيانة الصينية».
ولكن ماذا عن دول الخليج العربي؟ أعتقد أن لدى الدول الخليجية فرصة كبيرة في رفع إنتاجها من النفط والغاز، واستهداف الأسواق التي كانت تعتمد على الصادرات الإيرانية، وسدّ أي نقص محتمل في أسواق الطاقة، والمحافظة على مستوى الأسعار، خاصة أننا مُقبلون على فصل الصيف الذي ترتفع فيه نسب الاستهلاك العالَمي للطاقة.
وإعلاميا، من المتوقع أن تصدر تصريحات طمأنة من وزراء النفط والطاقة في الدول الخليجية في هذا الخصوص، للحيلولة دون أي ارتباك في الأسواق العالمية.
وعلى المستوى الداخلي الإيراني، سنشهد خلال الفترة القادمة مزيدا من الصراعات وتبادل التهم بين أجنحة النظام الحاكم في طهران، وستواجه حكومة روحاني مزيدا من ضغوط التيارات الأصولية، وقد يتعرض الرئيس روحاني لضغوط، إما بالاستقالة وسحب الثقة، بهدف إعادة التوازن ومعالجة الإخفاقات وعدم تحقق الأهداف، والوعود التي راهن عليها في حملته الانتخابية، والأهم التي قدمها لخامنئي، وعلى رأس القائمة الاتفاق النووي وأثره على الاقتصاد الإيراني والصورة النمطية لإيران إقليميا ودوليا، والمراهنة على انعكاس ذلك إيجابا على المستوى المعيشي للمواطن، وتخفيف حدة الاحتقان المجتمعي.
قد يسعى التيار الأصولي في إيران إلى إقناع المرشد الأعلى بالانسحاب من الاتفاق النووي، وكذلك معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، واستئناف النشاط في المفاعلات النووية، ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم، ولكن هذه الخطوة ستكون هدية إيرانية للولايات المتحدة الأميركية، وكل من أيد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، لأنه يثبت نوايا وتوجهات النظام الإيراني، وصحة قرار الانسحاب، وبالتالي سيوحد الجبهة الدولية ضد إيران، وسيكون موقف أصدقاء طهران صعبا للغاية.
خلاصة القول، سيكون موسم الصيف القادم مؤشرا حقيقيا لمستقبل الحالة الإيرانية، والموقف الدولي من إيران، ومدى نجاح النظام الإيراني في امتصاص الصدمة، وإتقان إستراتيجية الرقص على الحافة، دون أن يلحق بنفسه الأذى، أو يثير المجتمع الدولي ضده.