للفن تميزه عن غيره، فهو كمفهوم لا يمكن، ولا ينبغي، أن يعرف تعريفا واحدا؛ إنه أشبه بالعائلة التي تجمع بداخلها العديد من الأفكار والرؤى والاحتمالات، إنه الفضاء الواسع الذي يستوعب كل الآراء، الإبداعي منها أو حتى المتحيز، كذا هو الفن طبيعته ترفع عنه كل قيد، لا حدود لحريته، يستقبل كل الانتقادات التي تقيمه، لكنه لا يطيق التكبيل والمنع والحجر. وانطلاقاً من هذه الفكرة، أجد أن العمل الفني «العاصوف» الذي كتبه الصديق الدكتور عبدالرحمن الوابلي - رحمه الله - هو توثيق مهم لمرحلة تاريخية حساسة من حياة المجتمع السعودي، وذلك منذ العام 1970 وحتى 1975، توثيق نفتقده في كثير من الكتب التاريخية. وبالرغم من أن 6 حلقات غير كافية للنقد الفني، إلا أني أراه عملا ناجحا ودليل نجاحه الضجة التي أثارها، والتي تدل على أن العمل وفّى الغرض وحرك النفوس، وتلك هي مهمة الفن الأجلى والأعظم. قصة أي فيلم أو مسلسل تبدأ من اللقطة، فاللقطة هي عمود وأساس ووقود الدراما، عاصفة الوابلي بدأت من اللقطة الأولى، وهنا الإبداع كيف تجعل بداية المسلسل غير نمطية ومستفزة استفزازا إيجابيا للمشاهد، بحيث تجعله وتفرض عليه أن يكمل مشاهدة القصة وأن يتفاعل معها ويحللها. وبالفعل نجح «المثنى صبح» المخرج السوري في اللقطة الأولى للمسلسل، وذلك عندما وضعت امرأة مولودا جديدا عــلـى باب المسجد. وكالعادة وكما هو متوقع جاءت ردود الفعل عــلـى وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر وهاشتاق «#ماكنا_كذا استنكر فيها البعض هذه «الواقعية» والبداية التي تتجنى عــلـى السعوديين وتاريخهم. ردود الفعل في نظري هي طبيعية لمجتمع هو حديث عهد بالفن إنني أتساءل: هل يريد هؤلاء خطبا تاريخية وعظية؟ أم يريدونها دروسا تعليمية؟ نحن نتحدث عن عمل فني يحاكي العقل والضمير ويستثير قدرة الإنسان على التحليل والاستنتاج.

وهنا يجب إيضاح أمرين مهمين يتعلقان بالدراما التاريخية: أولا: الكاتب التاريخ أو المؤرخ التقليدي يركز دائما على الخطوط العريضة والرئيسة للأحداث التاريخية، ولا يهتم كثيراً بالتفاصيل الدقيقة التي جسدتها. ثانيا: الكاتب الدرامي، فهو يعتمد في كتابته على التفاصيل الدقيقة والخفية التي ينطلق منها في فهم الخطوط العريضة، والتي لا يعنيه كثيراً حتى ذكرها، بمعنى أن المؤرخ ينطلق من العام لفهم الخاص، أما الكاتب الدرامي فينطلق من الخاص، لفهم العام. وليس هنالك تناقض يذكر بين الخاص والعام. الدكتور عبدالرحمن الوابلي هو متخصص في التاريخ وفي ذات الحال هو كاتب درامي من الطراز الرفيع، وعندما كتب «العاصوف» كان ينطلق ككاتب درامي وليس كأستاذ تاريخ، وهو دائما ما كان يفرق بين الكاتب التاريخي والكاتب الدرامي. أخيرا: تبقى كلمة شكر مستحقة لطاقم المسلسل على جهودهم المبذولة، ومرة أخرى سأسبق الجميع في ثنائي المبكر للمسلسل لأننا نتحدث عن قامات عالية بحجم الوابلي والقصبي والمثنى وسيبقى «العاصوف» عملاً فنياً ذا أثر عميق مع كل ما تلقى من نقد، وما كان ليتلقاه لولا أنه نكأ الجراح، فليسبغ الخالق على القلوب المحبة والهدوء ليعم السلام.