يعود سبب ظهور مفهوم «الحوكمة» إلى انهيار بعض الشركات الكبيرة وكذلك الفضائح المالية وحالات الفساد، وتراجع مستوى الثقة في مهنة المحاسبة والمراجعة، حيث يقول (توماس ستيوارت) في كتابه ثروة المعرفة ما نصه: «لقد قضت المحاسبة نحبها منذ زمن طويل، ولم تدفن بعد.. فخلال الأعوام العديدة الماضية، ثبت وجود أوجه قصور في محاسبة العصر الصناعي مراراً وتكراراً.. المستثمرون يتعرضون للتضليل بانتظام.. والعالمون ببواطن الأمور (أي المديرون) استفادوا من معلومات لا يستطيع المستثمر العادي الوصول إليها».
وعلى هذا الأساس، قامت المنظمات الدولية والأجهزة الرقابية بوضع مجموعة من المعايير والقواعد بهدف المساهمة في تحسين مستوى الأداء وتوفير الرقابة الفاعلة، وذلك تحت إطار «حوكمة الشركات»، والتي أصبحت من أهم متطلبات الإدارة في الشركات والمؤسسات في مختلف دول العالم، وتعتبر من آليات استكمال عمليات الإصلاح الإداري والمالي والتطوير المؤسسي من خلال تعزيز مبادئ العدالة والشفافية والإفصاح، وإيجاد البيئة الرقابية الفاعلة وتعزيز المساءلة لتحقيق أهداف الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص.
ولتوضيح أهمية «الحوكمة» لنأخذ على سبيل المثال ما يحدث في بعض الشركات حيث يعتمد مجلس الإدارة بشكل كلي على الإدارة التنفيذية في الوقت الذي يهمل فيه المجلس الإشراف والرقابة على أعمال تلك الإدارة، وبالتالي يغط المجلس في سبات عميق، متناسياً مسؤولياته ومهامه، مع إعطاء الإدارة الصلاحيات المطلقة دون مساءلة أو محاسبة، فتكون النتيجة الاعتماد على تقارير مالية وإدارية مضللة وغير صحيحة، وهذا هو نفس السبب التي آلت إليه بعض الشركات العملاقة في العالم، والتي كانت مرتعا للغش والاحتيال ونهب الأموال، حيث تم تزوير التقارير المالية للاحتيال على المساهمين برفع أسهم في الأسواق المالية، وكذلك التحايل على الأجهزة الرقابية الحكومية من خلال التواطؤ مع شركات المراجعة والتدقيق المحاسبية.
هناك ثغرة خطيرة في الإشراف والرقابة في بعض الشركات، فالتعسف في استخدام سلطة الإدارة دون رقابة أو مساءلة، أدى إلى كثير من الإخفاقات والهزات والإفلاسات التي كان لها أثرها على ضياع أموال المساهمين في العديد من الشركات، وكذلك الاقتصاد، فكثير من الكتابات والنظريات الإدارية التي تتناول موضوع الشركات المساهمة تتحدث عن تحديد السلطات والصلاحيات والمسؤوليات، إلا أنها أغفلت مفهوم المساءلة عن النتائج في هذه الشركات في ظل تراخي وتكاسل مجالس الإدارات فيها، والفكر الإداري في العالم العربي دائماً للأسف يطالب بالصلاحية دون الالتفاف للمسؤولية والابتعاد عن المساءلة.
ومن هذا المنطلق تبرز أهمية منهج «حوكمة الشركات»، والتي تركز على مساءلة أعضاء مجلس الإدارة في الشركات المساهمة، فقد تم تعزيز وتقوية أنظمة حوكمة الشركات بصدور النظام الأميركي «ساربينز أوكسلي» عام 2003م، الذي أثار ضجة عالمية لمتطلبات الإفصاح والمساءلة وعضوية مجالس الإدارة وما يتضمنها من التزامات ومساءلة قانونية أمام القضاء.
وفي المملكة العربية السعودية أصدر مجلس هيئة السوق المالية لائحة حوكمة الشركات الجديدة لتحل محل وتلغي اللائحة السابقة، وتشتمل اللائحة الجديدة على قواعد لقيادة الشركة وتوجيهها، وعلى آليات لتنظيم العلاقات المختلفة بين مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين والمساهمين وأصحاب المصالح، حيث تم تخصيص الباب الثالث في اللائحة الجديدة لمجلس إدارة الشركة، وتضمنت تفصيلات عن تشكيل مجلس الإدارة ومسؤولياته واختصاصاته واختصاصات رئيس وأعضاء مجلس الإدارة وإجراءات عمل المجلس، بالإضافة إلى تشكيل واختصاصات واجتماعات لجان مثل لجنة المراجعة ولجنة الترشيحات والمكافآت ولجنة إدارة المخاطر، كما خصصت اللائحة الباب الخامس للرقابة الداخلية في الشركة وتضمنت تكوين وتأسيس إدارة المراجعة الداخلية.
كما تؤكد لائحة الحوكمة الجديدة على أن مساءلة الموظفين في الشركة تقع على عاتق الإدارة العليا، وتقع مساءلة الإدارة العليا أمام مجلس الإدارة، والذي بدوره يكون مساءلاً أمام المساهمين، والهدف من اختيار أعضاء مجلس الإدارة تحقيق مصالح المساهمين وتمثيلهم بهدف صيانة وتوظيف أموالهم في المجالات الآمنة وذات الجدوى، وكذلك بالنسبة لاختيار الإدارة العليا والموظفين لتحقيق هذه المصالح كذلك.
إن أول وأهم متطلبات «حوكمة الشركات» هو الفصل بين مهام ومنصب رئيس مجلس الإدارة ووظيفة المدير العام، لأن معظم انهيار وفساد الشركات تركز في منصب الرجل الواحد، بالإضافة إلى غياب المساءلة، وواقع بعض شركات المساهمة لا يخلو من هذا النموذج ناهيك عن سيطرة عائلة بأكملها على المجلس، بالإضافة إلى عدم قيام المجلس بمهامه وواجباته وانعدام مسؤولياته، ولهذا فإن هيكلة المجلس وتقييم أدائه ومساءلته لها أهمية قصوى في حوكمة الشركات، ويمثل التحدي الحقيقي الذي يواجه تطبيق اللائحة الجديدة للحوكمة على أرض الواقع، لذا فإن تطبيق آليات الحوكمة سيفعل جهود الإصلاح الإداري والمالي، وكذلك جهود مكافحة الفساد والقضاء على إساءة استعمال السلطة والواسطة والمحسوبية، وإقصاء الكفاءات.
وعلى هذا الأساس، فإن منهج الحوكمة يجب تنفيذه على الشركات المساهمة كأولوية وأهمية قصوى، لأن المساءلة والشفافية والالتزام بالأنظمة والقوانين واتباع المعايير المحاسبية يحقق الرقابة والتوازن والاستقرار وحماية حقوق المساهمين، وزيادة ثقة المستثمرين في ضخ أموالهم في سوق الأسهم بالإضافة إلى جذب رؤوس الأموال الأجنبية، فإذا كانت بعض الشركات تتفاخر اليوم بتطبيق معايير الجودة (الإيزو) فإن الشركات العالمية اليوم تفخر باتباعها والتزامها في تطبيق مبادئ وقواعد حوكمة الشركات حتى تكسب ثقة الناس والمستثمرين، فبعض المنظمات المهنية المستقلة تحاول حماية المستثمرين من الشركات ذات الحوكمة الضعيفة من خلال نشر تقييمات للحوكمة عن الشركات، فالشركة ذات التصنيف العالي تكون أقل خطورة وتنمو فيها حقوق المساهمين، والشركات ذات التصنيف المنخفض تكون أكثر خطورة ولديها احتمال كبير في الفشل والاحتيال.