حينما نقلّب فكرنا في القرآن الكريم، نجد نماذج وقصصا تهز الوجدان، وتعبر بالأرواح حواجز اللامعقول ليصبح معقولا، والمستحيل ليصبح ممكنا، لنقف بعدها متسائلين: من أين ابتكر أولئك المتشددون أحكامهم؟ ومن أين استقوا أفكارهم؟ وإذا زعموا أن مرجعهم الدين والقرآن، فها هو القرآن النبع السلسبيل، يسرد لنا أروع القصص التي تثبت للإنسان بشريته، وتعلمنا أنه محكوم بها، غير منفك عنها كائنا من كان، نازع إلى غرائزه التي يجب أن تجد لها التصريف الصحيح، كي لا تنحرف به عن مسار البشرية إلى مسارات أخرى لا تليق به.
إننا لو اتخذنا من قصص القرآن عبرا، ومن وسطية الإسلام نهجا، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من اختلاف، ولما اضطررنا إلى المطالبات بالحقوق ولا إلى رفع الشعارات.
ولعلي هنا أوفق في اختيار نموذج جميل جدا، وكل قصص القرآن جمال لكني تعمدتها تحديدا، ألا وهي قصة الفتاتين مع موسى عليه السلام، إنها مثال رائع ترقى معه النفس البشرية غاية الرقي، وتسمو غاية السمو، لسنا بصدد سرد القصة، فهي على الراجح معلومة لدى الجميع، لكننا بصدد استشراف الجانب الإنساني المشرق فيها، بعيدا عن تأطير الرسالة، وقدَر النبوة.
فنحن نتحدث عن قلوب مالت إلى بعضها ميلا فطريا لمّا أمنت لبعضها، وخفقت بالإعجاب لسمات نبيلة خفقاتٍ غير معتادة، ما نسميه نحن بالإعجاب أو حب النظرة الأولى.
وهل يمكننا تجاهل نبضة استفزتها صفات حميدة، ومشاعر أثارتها فعال كريمة، لا سيما وقت ضعف وحاجة؟
«فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»
دعوة هي من جوامع الدعاء، انطوت على رغبات وأمانٍ بشرية، لا تخفى على ذي لبّ، لا سيما إذا علمنا أن موسى -عليه السلام- وقتها كان في أضيق حلق العيش، محتاج وطريد وخائف، بيد أنه أدب الدعاء الذي جعله يجمل الدعاء ولا يفصل، وهناك في المقابل ذهبت الفتاتان تقصّان على أبيهما خبر موسى، وما كان من شهامته معهما ونبله، لكن الكبرى كانت أكثر إعجابا به على ما يبدو، وكما تؤكد الروايات والتفاسير، وهي التي أرسلها أبوها لتستدعيه ليجزيه أجر السقاية، وهي أيضا صاحبة العرض الجريء:
«قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»
ها هي تعرض عرضا غريبا، وتمتدح رجلا غريبا، ولم يصفعها والدها ولم يوبخها، بل استوعب مشاعرها المتدفقة بطهر تجاه ذلك القوي الأمين، وأسرّ في نفسه ما انطوى عليه عرض الفتاة، وسارع بتدارك أمرين، لا يخفيان على متأملٍ رشيد، الأول: المسارعة إلى مكافأة المحسن، والثاني المسارعة إلى احتواء المشاعر، والتي انسكبت تلقائيا بكل عفوية، واستشفها الوالد الحكيم من ردة فعل الفتاة، فقدّم عرضه الذي ضمن فيه الأمان للطرفين: الابنة المهذبة التي لم يجرفها الإعجاب إلى الخطأ، والنبي العفيف المهاجر بنفسه، ودينه.
«قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى? أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».
هنا تمت الصفقة المباركة، وأمن القلبان، واستقر المهاجر، وسكنت النفوس، ووضعت الأمور في نصابها بكل يسر.
إن في قصصهم لعبرة، فكيف ندّعي أن القرآن مرجعنا والدين فيصل في أحكامنا، ثم نلغي الحقوق، ونتجاهل الأولويات؟ ونحكم العادات، ونقدم التقاليد؟!
إننا هنا لسنا نشجع الفتاة أن تأتي بمن شاءت من الرجال إلى أهلها، أو أن تنفلت هنا وهناك خلف عبارات الإعجاب، ولكننا نقصد إلى ما يجب أن يكون عليه التعامل بين الوليّ ونسائه، وبين الإنسان والإنسان، وأن يعترف كل طرف بما للطرف الآخر من حقوق، وبما عليه من واجبات، دون تعدٍّ ولا إجحاف، ولا إفراط ولا تفريط، ونلفت الانتباه أكثر إلى أن التشدد لن ينتج شخصيات مستقيمة مطلقا، بل سينتج شخصياتٍ متوترة، وعقولا ملغومة، وانفجارها سيكون نقمة ليس على الفردي بل على مستوى مجتمع بأكمله، وكما قد قيل، الكبت لا يولد إلا الانفجار.