حينما زرت «كاوست» ورأيت ما فيها من عالم تقني ومعامل ومختبرات ومبدعين من مختلف العالم لم ينتابني ذلك الشعور الغريب لدى غيري بأنها رحلة إلى عالم آخر غير الذي نعرفه، بل هو الواقع الذي تصورته تماماً، غير أنه كانت في ذهني تساؤلات حائرة وجدت كثيراً من أجوبتها المنطقية عند بعض من التقيته من مسؤولي ومنسوبي الجامعة.
قلت لمحدثتي: هذه الجامعة اعتبرها مفخرة للسعودية وللوطن العربي. قالت: إنها مفخرة للإنسانية. ذهلتني العبارة وجعلتني أشعر بحجم سعة الأفق والنظرة الكونية العابرة للقارات. هذا المنطق جعلني ألمح ما يدور في ذهن القيادية الثانية في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية من رؤى. جزمت حينها بأن هناك إستراتيجيات وأهداف عملاقة واستعداد كبير لخوض التحديات الجسيمة لتحقيقها، رغم العمر القصير لهذا الصرح الجامعي مقارنة بحجم وعراقة الأقران المنافسين، من صروح التعليم العالمي الضاربة في عمق التاريخ والإنجازات.
ونحن نهم بمغادرة مكتب الدكتورة نجاح عشري، بعد سماع عرض شفهي موجز عن الجامعة، والحديث عن إيجابيات وانتقادات تدور حولها، مازحت محدثتي: إنني أبحث عن أخطاء وسلبيات في الجامعة لأعرضها للقارئ حتى لا أظهر بمظهر مجرد المادح لجامعتكم.
كانت الإجابة: «لدينا أخطاء ولدينا سلبيات نعمل على تصحيحها وتجاوزها والاستفادة منها». كانت العبارة تنم عن منطق الناجحين وتذكرتُ الكثير منهم في العالم الغربي إلا أنه لم تسعفني الذاكرة لأسماء ناجحين عرب في المجال الإداري ممن يعترف بالأخطاء، علناً، سوى غازي القصيبي، ورغم اعترافاته تلك، أضحى هو نجم الإدارة الأول، ربما على مستوى العالم العربي قاطبة.
أول شخص تحدثت إليه في الجامعة، كان رجلا جلس بجواري على طاولة الإفطار، علمتُ أنه محاضر من جامعة الجوف، في دورة قصيرة بدعوة من كاوست، الأمر الذي أعطاني ملمحا إيجابيا عن نشاط الجامعة مع نظيراتها المحلية.
كغيري، كنت أتساءل، لماذا يتواجد هنا 80 جنسية من دول العالم للدراسة والتدريس، لماذا هؤلاء يُفضلون جامعة كاوست على جامعات بلادهم العريقة متكبدين مشقة البعد وألم الاغتراب واختلاف البيئة الشاسع. صحيح أن الطلبة المغتربين يحصلون على منح دراسية من كاوست وربما يحصل أعضاء التدريس على مميزات مادية أكثر، غير أن المادة ليست كل شيء خصوصا عند نوابغ الدارسين الدوليين الذين يجدون من يتكفل بدفع رسوم تعليمهم في أعرق الجامعات. كذلك، الأساتذة وعلماء الأبحاث العالميين في كاوست الذين لديهم اهتمامات أكبر من قضايا المغريات المالية.
كان الجميع- من الذين شاهدتهم وقرأت عنهم في منشورات الجامعة - يُجمعون على أن السبب الجوهري هو الإمكانات البحثية العلمية المتوفرة والنادر اجتماعها في مكان واحد، مثل كاوست. يقول الأستاذ المشارك في جامعة بنسلفانيا، البروفيسور مايكل هكنر «لدى كاوست قدرات لا نملكها». وتقول عالمة البيولوجيا الألمانية البروفيسورة شارلوت هاوزر «إن المختبرات عالية التجهيز والتمويل السخي من جامعة كاوست، يخلقان بيئة من الحرية الأكاديمية لم أخبرها من قبل».
كنت أتساءل أيضا؛ لماذا المواطن في الجامعة أقل عدداً من غيره من حيث الطلبة والأساتذة؟ تبدد هذا السؤال حين استنتجت، شخصياً، أننا أمام خلق بيئة دولية مشابهة بالابتعاث الخارجي وربما أعلى من ذلك، لكون معايير القبول والاستقطاب الخاصة بالجامعة عالية جداً للطلبة والأساتذة. كذلك، فإن أبحاث العلماء المتواجدين في الجامعة، تقام على أرض وبحار الوطن وبالتالي هي تصب لمصلحة البلد وأهله.
كان من ضمن اهتماماتي، معرفة ماذا قدمت وتقدم مدينة العلم «كاوست» للمجتمع، وبالأخص قرية ثول التي تقبع في محيطها جامعة كاوست والمواقع المجاورة لثول أيضا. سمعت من منسوبي الجامعة أمورا كثيرة في هذا الجانب غير أنه لم يسعفني البرنامج لمشاهدة الواقع، لذا، لا زلت أعتقد أن المأمول أكثر.
سائق التاكسي الذي أوصلني لجدة، طرف محايد وشاهد على ما جرى، حدثني -ونحن على تُخوم ثول- أنه مقيم في ثول منذ 6 سنوات، وشاهدَ بنفسه الجامعة وأرامكو يقومان بسفلتة شوارع القرية الترابية وإنشاء كورنيش جديد.
من المآخذ على الجامعة أنها في شبه عزلة عن المجتمع المحلي والمحيط الخارجي، غير أنني اطلعت على أنشطة موسمية تدعو فيها الجامعة شرائح مجتمعية عديدة للمشاركة تتخللها ورش عمل وتدريب وريادة مشاريع وفعاليات ثقافية وفنية، تمتد لثلاثة أسابيع كبرنامج الإثراء الشتوي والربيعي.
صحيح أن كاوست نشأت في فترة واجهت فيها تيارات مناوئة الأمر الذي تطلّب منها الانكفاء على ذاتها، بيد أن الوضع اليوم مختلف تماما. نحن قادمون إلى مرحلة غير تلك المرحلة، ثقافيا اجتماعيا واقتصاديا وحضاريا ولا أظن الجامعة ستغفل عن دورها القادم.
علمت من مسؤولي الجامعة أن نسبة 50??% من خريجي الجامعة غير السعوديين يستقرون ويعملون في السعودية باختيارهم، غير أنني مسكون بالاهتمام والعناية بمن يعود لبلده من خريجي جامعاتنا ومتابعتهم وتكريمهم في حال نجاحهم في أوطانهم، لأنهم قوة ناعمة وواجهة لبلدنا التي تلقوا تحصيلهم العلمي منها.