كلما دخلت إلى إحدى وسائل التواصل الاجتماعي قابلت قصة عن العطاء، تحرّك فيك مشاعر جميلة، تغمرك وتجعلك تشعر بالسعادة رغم أنه لم يكن لك يد في أي من أحداثها، فقط لأن أحدا ما في مكان ما قام بتصرف نبيل. قد تكتب صفحات وصفحات عن العطاء، ولكن القليل من الناس مَن سيتوقف ويقرأ، ولكن إن وضعت كل مقولة في قصة فسوف تجدها تتناقل بين الناس بأسرع مما تتخيل! قد تكون القصة أخذت من واقع، وقد تكون من نسيج خيالك، لا يهم طالما أنها قدمت من خلال إطار قصصي جميل، وتعابير تمرّ في سجع جميل، سيتداولها الناس، ومن يدري فقد تعيش بعدك وأنت في عالم النسيان! أن تنشر قصة لتحفزّ غيرك على العطاء أمر جميل، ولكن أن تؤلف القصص من أجل أن تستغلّ مشاعر الناس فهذا قمة الاستغلال!
والاستغلال له عدة صور، لنأخذ مثلا هذا الشهر الفضيل الذي يتقرب فيه الناس من الخالق بنشر العطاء بكل الطرق المتاحة أمامهم، ولكن من يريد منك المساعدة لأحد ما، أسرة كانت أو رجلا أو امرأة أو طفلا، يبدأ الحديث بقصة مأساة يعيشها هذا الإنسان، إنها مفتاح يحرك المشاعر مضمونة التأثير، خاصة لمن يمتلكون المشاعر الرقيقة والأرواح الشفافة التي لا تتحمل سماع مثل هذه القصص. أمر جميل ورائع ونبيل جدا من هؤلاء البشر الذين يسعون لإدخال الفرحة إلى نفوس الغير، ولكن ماذا عن أولئك الذين يستغلّون هذا الشهر الفضيل، ويسعون إلى جمع الأموال والأرزاق من أجل أنفسهم، بمعنى لا شيء سوف يصل! أو أولئك الذين يحدثونك عن أناس هم بحاجة وتكتشف أنهم يوزعونها على معارفهم وأصدقائهم الذين قد يكونون بحاجة، لكن ليسوا بنفس الحالات الحرجة التي يعيشها من يستحق المساعدة فعلا!
وهناك استغلال من نوع آخر، كأن يحدثك شخص عن أعمال قام بها لمساعدة الغير، ليس طالبا منك مالا أو أي شيء من هذا القبيل، كل ما يسعى إليه هو أن تراه في صورة المصلح الكريم الذي يؤثر حاجات الناس على نفسه! وإن بحثت في حياته أكثر وجدت أنه من أبخل الناس على أقرب الناس إليه! ماذا يريد إذًا؟! يريد أن يسرق لحظات انتشاء يشعر بها من خلال نظرات الإعجاب والتبجيل التي يراها في أعين المستمعين من حوله! يعلم أنه ناقص خاصة كلما نظر إلى نفسه في المرآة، ولكنه يغطي هذا الشعور بما يصل إليه من نظرات من حوله بعد أن تمت عملية الكذب والتأليف! ضميره صاح ويؤنبه، وإلا فما سعى جاهدا كي يستمد هذه الطاقات الإيجابية ممن هم حوله! ولأنها مؤقتة سرعان ما يعود إلى نفسه ومحاسبتها، يستمر في الكذب والتأليف لأنه أدمن تلك النظرات، وبات لا يقدر على الاستغناء عنها. أما من كان ضميره في سبات عميق فلا يسعى ولا يتعب نفسه أصلا، ويعتبر كل ما سبق مجرد إضاعة وقت وجهد، لا يريد أن يساعد ولا يريد أن يرسم نفسه على أنه يساعد، ويؤمن تماما بأنه ليس مجبرا على أن يقنع نفسه أو غيره، فماله هو له، وليس لأحد آخر أي حق فيه، حتى إن كان فقيرا أو معدما، حدود مسؤوليته هي حدود ذاته، وأي تجاوز يعتبر خطا أحمر!
أما استغلال التحدي فيعتبر أمرا يثير الغضب والاشمئزاز! يقابلك من لا يتخلّى عن قرش من جيبه، وهو من ينطبق عليه القول بأنه شخص كلما دخل قرش إلى جيبه دفعه إلى الأعماق، حيث لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه حتى هو شخصيا، ولسان حاله يقول: «تعبت من اللف والدوران، وآن الأوان أن ترتاح يا صديقي»! يقف أمامك بكل وقاحة ليسألك عما صرفت من أجل الفقراء والمساكين! لا بل وبكل ثقة يسألك عن المبلغ والقيمة والكمية! والذي يغيظ حقا أنه يبدأ بقصص الكرماء، فهذا صرف وذاك تبرع، وبين كل قصة وأخرى ينظر إليك تلك النظرة المغلفة بالاتهام والتحدي! وإن رددت بأن ذلك ليس من شأنه ساق الغباء على المسكنة، وبدأ بهجوم دفاعي وبصوت عال ليشعر كل من هم حولك بأنك إنسان لا تريد التبرع والعطاء، وتهاجمه لأنه يذكرك فقط!
وهناك استغلال نرجسي، فمن يتحدثون عن العطاء والكرم والشهامة ويؤلفون أجمل القصص، أو من يكتبون أكثر المقالات قراءة، أو من يقدمون البرامج المتابَعة من الآلاف، لديهم تأثير كبير يحرك الناس حتى يتفاعلوا، فتجد الناس يمتدحونهم ويتحدثون عنهم على أنهم قدوة حسنة، ويتبعهم الكثير في وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم من يرسل إليهم المقاطع مادحا أو مشاركا في عمل راق وجميل، ولكن إن درست فعلا أقوال أحدهم، أعني زلات تخرج بين الحين والآخر، قد لا يلاحظها المتابع العادي الذي تسحره الصورة الكبيرة فلا يلاحظ النقاط الصغيرة، فستجد هنا العجب العجاب!
سيظهر لك إنسان عنصري نرجسي، وفي أحيان كثيرة يدس السم في الدّسم! ومتى يظهر هذا السم للعيان؟ إن حدث أن تعرّض للنقد أو تم أي اقتراب من ثوابت تتعلق بما يعتبره محرما على كل إنسان غيره مهما كان قريبا منه، وهي ليست إلا الهالة التي رسمها لذاته، تدور حوله يلمعها ويجددها ويحافظ عليها كحفاظه على روحه التي تحرك جسده! أين الاستغلال؟ قد يسأل أحدكم؟ الاستغلال في تقديم ما يريد أن يسمعه الناس، ليس حبا فيهم أو اهتماما في تطويرهم، بل حب في ذاته، وعند أول تحدّ قد يقع، وهنا الخطر! فمن تابعه فسوف يشعر بالإحباط، ومنهم من سوف يبتعد ولا يصدق أحدا بعد ذلك، وكل ما بني من أجل مجتمع متماسك متعاون يضيع، ويصبح الأمر صعبا على من سيأتي صادقا في نية الإصلاح من بعده!
هل سيتغيرون؟ كلا! هل سيختفون من حياتنا؟ أيضا كلا، إذًا ما العمل؟ العمل أن نكون على مستوى عال من الوعي بحيث نلاحظ وندقق، وألا نسمح لأحد بأن يستغلنا، إن كان هو ذكيا كنا أذكى، وإن كان وقحا كنا أعلى أخلاقيا، ونرد بحيث لا نظهر ضعفا، ولا نسمح بأن ننزل إلى مستوى أدنى بحيث نستخدم ألفاظا لا تمثلنا، نستطيع أن نكون أقوياء دون التخلي عن مبادئنا! نعم تشدنا قصص العطاء، نعم نريد أن نشعر بجمال الخير ونسعد لأنه ما زال بيننا، ولكن في الوقت ذاته نرفض أن نستخدم أو نستَغلّ مهما كان الأمر ساميا ونبيلا!