من خلال العديد من المقاييس المعيارية، تبدو العولمة في تراجع، حيث أدت الأزمة المالية عام 2008، والركود الذي أعقب ذلك، إلى إنهاء ثلاثة عقود من النمو السريع في تجارة السلع والخدمات، وانخفضت التدفقات المالية عبر الحدود بنسبة الثلثين. وفي العديد من البلدان التي ناصرت العولمة تقليديا، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تحول الحوار السياسي حول التجارة مع التركيز على الفوائد الاقتصادية إلى المخاوف من فقدان الوظائف، والتفكك، وتراجع التصنيع، وعدم المساواة. وكان هناك إجماع قوي على أن فوائد التجارة بين الجانبين قد تفسح المجال للتفكير في تحقيق هدف مرحلة الصفرية ورفع الحواجز. ومنذ نوفمبر 2008 قامت بلدان مجموعة الـ20 بتنفيذ أكثر من 6600 إجراء من الإجراءات الحمائية.

لكن هذا فقط جزء من القصة، فحتى مع قيام منتقدي العولمة بخلق عوائق جديدة أمامها والابتعاد عن اتفاقيات التجارة الحُرة، فإن العولمة تواصل مسيرتها إلى الأمام. فاليوم، تعتمد العولمة على التكنولوجيا الرقمية التي تقودها إلى الأمام، الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة. وفي حين أن التجارة القائمة على قيود التوريد العالمية التي تستفيد من العمالة الرخيصة آخذة في التباطؤ، فإن التكنولوجيات الرقمية الجديدة تهيئ المزيد من المعاملات مع الجهات الفاعلة المشاركة عبر الحدود أكثر من أي وقت مضى، كما تؤدي إلى تحويل الشركات الصغيرة إلى شركات متعددة الجنسيات، وإلى تحوُّل القيادة الاقتصادية شرقا وجنوبا، بينما تتجه الولايات المتحدة نحو الداخل ويتفاوض الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على الانفصال.

بعبارة أخرى، العولمة لم تُفسح المجال للتراجع، لكنها دخلت ببساطة مرحلة مختلفة، حيث إن هذا العصر الجديد سيجلب فوائد اقتصادية واجتماعية، ويعزز الابتكار والإنتاجية، ويتيح للناس حرية اتصال غير مسبوق في مجال تبادل المعلومات وربط المستهلكين والموردين ببعضهم البعض على مستوى جميع أنحاء العالم، لكن العولمة قد تكون أيضا مدمِّرة، حيث بعد أن تتلاشى بعض القطاعات، ستختفي بعض الوظائف، وتظهر وظائف من نوع آخر. ومع أن الفوائد ستكون ملموسة ومهمة، إلا أن التحديات ستكون كبيرة. ولذا يجب على الشركات والحكومات الاستعداد للاضطرابات القادمة.

العولمة ليست في حالة تراجع، لكن نسخة معدّلة لها مدعومة بأسس رقمية وتحولات جيوسياسية متغيرة، بدأت تشكلها بالفعل. وفي تجسيدها الأخير، أصبحت العولمة ساحة معركة للقوى المعارضة: فمن ناحية تقف النخب السياسية والتجارية التي استفادت أكثر من غيرها، ومن ناحية أخرى يقف العمال والمجتمعات التي عانت أكثر من غيرها. ولكن في حين اندلعت نقاشات بين هاتين الجماعتين حول آثار العولمة، استمرت العولمة نفسها تسير على قدم وساق.

واليوم، تستمر المناقشات نفسها بشأن آثار العولمة على العمالة وعدم المساواة، حتى مع اكتساب شكلها الرقمي الجديد زخما. وبدلا من ترسيم المناقشات القديمة فقد حان الوقت لقبول واقع العصر الجديد للعولمة والعمل على تعظيم فوائدها، وتقليل تكلفتها، وتوزيع المكاسب بشكل شمولي، فعندها فقط يمكن تحقيق أهدافها الحقيقية.


سوزان لوند* و لورا تايسون**

* لوند زعيمة في معهد ماكينزي العالمي

** تايسون أستاذة متميزة في كلية الدراسات العليا بجامعة كاليفورنيا في بيركلي

مجلة (فورين أفيرس) الأميركية