في مشهد مسرحي قديم، يرفض الوالدُ الشابَّ المتقدم لابنته، وتضطر الفتاة إلى أن تفكر في خطة بديلة لتفوز بموافقة الوالد الصارم.

فتشرح للشاب خطة طويلة ومعقدة، تبدأ بأن يذهب إلى والدها خاطبا، لكن هذه المرة متنكرا في شخصية شاب مثقف درس في الخارج، وهذا يستدعي أن يضع شنبا مستعارا ليخفي ملامح وجهه، ويستوعب الشاب هذا الجزء جيدا، وتنطلق الفتاة في شرح بقية تفاصيل الخطة، لكن عقل الشاب يتوقف عند المدخل، وهو أن يضع الشنب، عاجزا عن فهم أي شيء آخر، لأنه يظن أن هذا الجزء كاف تماما لنجاح الخطة، وتستمر الفتاة في الشرح المطول المفصل، وفي كل مرة تنتهي فيها من الشرح المضني، تسأله ماذا فهم؟ يجيب أنه فهم أنه يركب شنب.

هذا المشهد الكوميدي يذكرني بأولئك الذين اتخذوا من نقد الدولة ومؤسساتها موضوعا دائما لا يتغير أو يتبدل أو يتطور، والنقد كما هو معروف يتكون من الشقين: السلبي والإيجابي، كما يجب أن يكون على محاور متعددة ونطاقات واسعة وأهداف سامية تتعلق بالإصلاح، وليس لمجرد النقد، أو تعرية العيوب، أو تأجيج الشارع أو المواطن البسيط ضد وطنه.

اللافت إلى النظر -وهو الرابط بين المقال ومقدمته- هو أن هؤلاء يحفظون عبارات محددة ويكررون عبارات معلّبة مستهلكة، أو يتم إعادة تدويرها والمحتوى واحد، دون الدخول في التفاصيل الدقيقة والتداعيات المحيطة والمسببات والنتائج، الأمر الذي يتنافى مع أبسط أدبيات النقد، كما يطرح تساؤلات واسعة حول الهدف من إثارة هذه الأمور، وتكرارها في كل مرة بالطريقة نفسها لبطل المسرحية، مع العجز التام عن الحديث عن بقية التفاصيل، والإجابة عن أي سؤال أو تساؤل خارج العبارات المحفوظة.

وتتركز الأحاديث غالبا حول المخاوف التي تؤرق البسطاء وحولها تدور سواء كانت مخاوف حقيقية أو وهمية أو احتمالية.

وأقرب الأمثلة إلى ذلك، هو الحديث المكرر عن الآثار السلبية المتوقع حدوثها بالتزامن مع تنفيذ مشاريع كبرى، مثل التحول الوطني أو الرؤية، وهي في معظمها عموميات تصاحب أي مشاريع تنموية أو تحولات وطنية أو رؤى مستقبلية، ويتم تداول هذه المشاريع بالنقد بناء على النتائج المستقبلية التي لم تحدث بعد، ولا يعلم مدى حدوثها إلا الله سبحانه وتعالى، لكن المنبرين للانتقاد وإبداء الآراء المضادة لا يفهمون سوى هذا الجزء الصغير من الموضوع، ويرونه كافيا جدا لإظهار مواهبهم في النقد.

حق الرأي يجب أن يكون مكفولا متاحا للجميع، لكن حين يحدث ذلك يجب أن يكون صاحب الرأي على قدر هذه المسؤولية العظيمة التي أتيحت له، وأن يدرك أن الرأي خُلق وثقافة وأمانة، ليس فقط عندما يكون على الملأ على صفحات الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، بل حتى عندما يكون هذا الرأي في الاستراحة أو المجلس أو جلسة عائلية خاصة، أو في وسائل التواصل الاجتماعي خلف قناع مستعار، فقيمة الرأي الأدبية والحضارية والأخلاقية تحتم على صاحبه أن ينقّحه كما ينقح الشاعر قصيدته قبل عرضها على الجمهور، لا سيما إذا كان هذا الرأي يمسّ دولة ووطنا، ويلامس مشاعر المواطن ونبض الشارع، فالرأي في صورته الحقيقية والنقد في حلته الحقيقية هدفهما البناء لا الهدم، وهذا لا يعني التطبيل أو المداهنة والمجاملة، فهي أيضا من صور الهدم، لكن تعني ألا يصبح الرأي لمجرد الوجاهة الاجتماعية، وتصدر المجالس بالعبارات المكررة إياها، وهي في بعضها حق يراد به باطل، وقد تكون عن طيب نية وسلامة قصد، لكنها قد تقع على المستمع موقعا آخر، لا يدركه القائل ولا يفطن إليه.

فالرأي المضاد إذا لم يكن هدفه الإصلاح، وإذا لم يكن في وقته ومكانه المناسبين، ولم يكن بعد قراءة عميقة ومتأنية لكل جوانب الموضوع، ولم يصل إلى القيادات وصناع القرار، فالأفضل ألا نتخذه مطية لإثارة الآخرين، وعلكة لملء فراغاتنا واستدرار لعاب الاهتمام من المتلقين، إذا كان بإمكاننا أن نجعله منديلا نمسح به عرق القلق، وجبين التوجس والحذر.

وطننا اليوم في أَمَسّ الحاجة إلى وحدتنا وتماسكنا، والآراء التي لا تبني، تهدم بالتأكيد.

لذا، قبل أن تتمتعوا بحق الرأي افهموا وتعمقوا، وتبينوا متى تعبّرون عنه وأين ولماذا.

وقبل أن تُركّبوا الشنب استوعبوا كل تفاصيل الخطة.