كل يوم تزداد قناعتي بأن الولايات المتحدة في عهد ترمب تحاول العودة إلى الفكر السياسي القديم الذي كان يسودها قبل ولاية الرئيس جيمي كارتر، حيث أخذ ينمو ابتداءً من عهده الفكر المسيحي البروتستانتي الصهيوني، وبدأ بالفعل يؤثر على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

لا أعني أن الفكر الديني لم يكن له أثر في السياسة الأميركية قبل ذلك، لا؛ ولكن تأثيره على السياسة بحيث يمكن للحكومة أن تتخذ قرارات مضرة أو مكلفة لأميركا من أجل كونها في مصلحة لما تسميه إسرائيل؛ هذا النهج كان جديداً عليها، حقاً أميركا منذُ وجد الكيان الصهيوني وهي تخدمه لكن لم يكن ذلك للحد الخطير الذي أظهرته النزعة الإيديولوجية الطارئة على السياسة الأميركية؛ وبرزت أولى مظاهرها في تخلي الإدارة الأميركية عن حليفها شاه إيران من أجل تنصيب قوة ثيوقراطية خرافية؛ بل لم تكن أميركا متخلية عن حليفها وحسب بل مشارِكة في مساعدة الخميني على الوصول للسلطة لأسباب عدة قد يكون منها معاقبة شاه إيران لوقوفه عام 1973 مع العرب ومشاركته، وإن كانت غير مؤثرة في دعم السعودية أثناء حرب العاشر من رمضان، رغم إدانته الظاهرية لاستخدامها سلاح النفط.

وكذا رؤيتهم عدم استعداد أو عدم قدرة شاه إيران على الوقوف أو المساعدة ضد الاتحاد السوفييتي في مشروع الوصول للمياه الدافئة؛ كذلك تصور الولايات المتحدة: أن حكومة ثيوقراطية في إيران ستكون أقدر على إثارة المشاعر ضد الفكر الشيوعي؛ لكن هذا الأخير لم يتحقق لأن الفكر أو الفقه الشيعي الإمامي الصفوي لا يتضمن جهاد الكفار إلا مع الإمام المعصوم، وفكرة الولي الفقيه الذي يمكنه النيابة عن المعصوم في اتخاذ هذا القرار لم تكن محل اتفاق.

سبب ثالث من أسباب الدعم الأميركي للدولة الثيوقراطية وهو محور مقالنا هذا: الرغبة في إثارة صراعات في المنطقة؛ فالسنوات السبع التي تلت العاشر من رمضان عام 1393 والتي غلب فيها الاستقرار زمن الرئيسين الأميركيين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، لم تكن مفيدة للكيان الصهيوني الذي يساعد الهدوء والاستقرار على توجه الأنظار إليه باعتباره العدو الأوحد؛ فكان المفيد له: أن ترعى الإدارة الأميركية مشروع تحريك الاضطرابات في المنطقة، ولن تجد كدعم الثيوقراطية الصفوية لتحقيق ذلك عبر مزاحمة السُّنَّة بتيار آخر معاد لها، بعد النجاحات التي حققتها السعودية في الدعوة إلى تصفية العقيدة الإسلامية من البدع وتحرير العقول من التعلق بالخرافات، وجمع العالم الإسلامي شعوباً وحكومات، والذي قطعت فيه السعودية قبل قيام الجمهورية المزعومة [ثيوقراطية إيران] أشواطاً بعيدة؛ وكان النشاط السعودي يشكل يقظة سنية فكرية لم يسبق لها مثيل منذ مائتي عام، فكانت مضايقة الفكر الذي ينتشر من السعودية بفكر منافس يحقق صراعا عقدياً في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي؛ ودعمت الولايات المتحدة الحرب بين العراق وإيران وساعدت في توريط صدام حسين في الكويت، وتدخلت في أفغانستان بذريعة أحداث 11/‏ 9 وتدخلت بقواتها لاحتلال العراق وإسقاط صدام ثم تسليم العراق بأكمله لإيران، ثم توجيه قطر بعد عام 1995 إلى الزعزعة الإعلامية للمنطقة عن طريق قناة الجزيرة، والتي كانت تستهدف السعودية بشكل أخص؛ ثم دعمت ثورات الخريف العربي وما نجم عنها من ويلات، وهي تقع ضمن مشروع الفوضى الخلاقة وبِرَك الدم الذي كانت تسعى إليها الإدارات الأميركية المتعاقبة.

وكان عهد أوباما هو العهد الأكثر سرعة في تهيئة المنطقة للانفجار العظيم، حيث تم إطلاق يد إيران في المنطقة بشكل وصلت معه إلى التصريح باحتلالها أربع عواصم عربية؛ ولا شك أن آخر عاصمة يعنونها هي صنعاء التي احتلها الحوثي مع وجود مندوبين للدول الخمس الدائمة العضوية ؛ كما ثبت أن إيران بتسهيلات من الولايات المتحدة هي الداعم لداعش وفصائل القاعدة والحشد الشعبي وحزب الله وعصائب أهل الحق وجيش المهدي وفيلق القدس وفيلق بدر؛ بل هي وراء ما حدث من التفجيرات في السعودية على أيدي الدواعش وما حدث من اضطرابات في القطيف، ومع كل ذلك كانت الولايات المتحدة ترفض تصنيفها أو تصنيف حزب الله أو أي من كتائب إيران المجرمة كإرهابيين.

وأوشك عهد أوباما على الانتهاء واللمسات الأخيرة على مشروع إقامة الفوضى في المنطقة وتقسيمها على وشك الانتهاء.

 إذاً فقد ظل المشروع الإيراني مشروعاً خادماً للكيان الصهيوني من جوانب عديدة أحدها تضخيم الصراع في المنطقة بعيداً عن كيانها والثاني تهجير العرب وقتلهم بيد الفرس لا بيدها، الثالث: إظهار المتصارعين من حولها للعالم على أنهم مجموعات من المتوحشين لا ينبغي أن يوجه إليها أي لوم حين تتعامل معهم بقسوة، الرابع إسقاط الحكومات العربية من حولها وإفراغها من كل مقدراتها. الخامس: تهيئة المنطقة لأي توسع صهيوني تحتاج إليه في ظل ضعف عسكري وقلة بشرية.

وكل ذلك نجح كيان الصهاينة حتى الآن في إحرازه في العراق وسورية ولبنان عن طريق الذراع الإيراني، وحتى الآن أيضا فشلوا في تحقيقه في السعودية ومصر مع محاولاتهم الكبيرة من أجل ذلك، وأشرسها دعم الحوثيين في اليمن ودعم التكفيريين في سيناء؛ أما الأردن فيبدو أن رؤيتهم له أن يكون محطة تجميع وتوزيع للاجئين من كل المناطق المتضررة.

وحال كون الصورة على هذا الوضع السيئ تولى إدارة الولايات المتحدة دونالد ترمب، ولا شك أنه ليس وحده؛ بل هو واجهة فيما أعتقد لفصيل سياسي يعارض التوجه الإيديولوجي في تحديد مواقف الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، والذي بموجبه تكون مهمة أميركا هي تهيئة الأوضاع لنزول السيد المسيح مهما كلفها ذلك من خسائر معنوية ومادية، وهي بالمناسبة الفكرة نفسها التي تحكم السياسة الإيرانية التي تزعم أن مهمتها تهيئة الأوضاع لخروج المهدي مهما كلف ذلك شعبهم من جوع وتخلف ومهما كلف المنطقة من مصائب وويلات.

المهم أن ترمب يؤمن بأميركا دولة تاجرة تبيع قوتها العسكرية والسياسية الدولية لمن يحقق لها المصلحة الأكبر، وتفضل الدول التي تتعامل معها بميزان المصالح أيضا.

بالطبع هذه الإستراتيجية لا تنطبق على الكيان الصهيوني الذي تشعر أميركا بالالتزام برعايته، ولهذا الاستثناء أسبابه التي لها حديث آخر يطول؛ لكن الأصل في سياسة أميركا فيما قبل جيمي كارتر هو المصلحة وحسب، والتي عاد إليها ترمب؛ ومما يحسب للسعودية في استشرافاتها السياسية: أنها فهمت هذا التغير منذ حملة ترمب الانتخابية، وسعت لتقديم الفرص المصاحبة أمامه وأعادت إثبات أن مصلحة الولايات المتحدة هي مع المملكة لا مع إيران؛ ولذلك لم تنظر السعودية بامتعاض لقول ترمب: «على السعودية أن تدفع أكثر» فالسعودية في حاجة لشراء تكنولوجيا وأعمال قيمتها تساهم في حل كثير من مشكلات الولايات المتحدة الأميركية، التي لديها ما يمكن أن تقدمه من تغيير مسار سياستها لتتخلى عن الدولة الثيوقراطية كما ساهمت في إنشائها، وهي بضاعة لن تسعد بها السعودية وحدها بل سيسعد بها كل العالم الإسلامي مع أن السعودية وحدها هي من بذلت الثمن.

وإذا نجحت السعودية بالتعاون مع حكومة ترمب في إسقاط المشروع الصفوي الإيراني، فذلك لا يعني سقوط المشروع الصهيوني أو أنه يصبح صديقاً.

بل يبقى أخطر مشروع في المنطقة، والصهاينة حين يظهرون استكانتهم في ظروف وجود من يقوم نيابة عنهم بصنع الشرور في المنطقة سوف يعودون لصناعة الشر لأنفسهم في حال سقوط وكيلهم في ذلك وهو النظام الإيراني.

والذي نستشفه من الأحداث أن الصهاينة باتوا يرون أن إيران قدمت كل ما بوسعها تقديمه لأجلها، وأن بقاءها أكثر من ذلك سيعني نجاح المشروع الصفوي على حساب الصهيوني، وهذا ما لا يريدونه، فقد كانوا يعدون الإيرانيين ليقفوا عند الحد الذي يخدم وجودهم وحسب؛ لذلك بدأ الكيان الصهيوني في تدمير الوجود الإيراني في سورية.

وهذه طريقة صهيونية معروفة فهم يعلنون عن إنهاء خدمات أصدقائهم بالركل بالأرجل، ويعبر عن ذلك أصدق تعبير هجمات القوات الشعبية الصهيونية [الهجانا] على الجيش البريطاني كي ترغمهم على سرعة الانسحاب من فلسطين، مع أن البريطانيين هم من احتل فلسطين كي يمكنوا الصهاينة منها.

حين ننظر إلى مشهد النزاع بين الصهاينة والإيرانيين فلا شك أن ما يلحق إيران ومشروعها على يد حليفتها الصهيونية يسرنا كثيراً لأنه يصب في صالح أمننا واستقرارنا، لكنه لا يعني وقوفنا مع الطرف الآخر، بل يعني أن نبقى يقظين له ولما يستجد من مكائده.