تعددت تصريحات المسؤولين في الدول ذات العلاقة بقضيتين هما الآن الأبرز في الشرق الأوسط، أولهما موضوع الاتفاق النووي، والآخر أزمة التصعيدات بين إيران وإسرائيل في سورية، وتبعتها سيول من التعليقات والتحليلات والعديد من الإنشائيات والأمنيات والرغبات Wishful thinking.
وبعيداً عن هذا الركام من التحليلات وعن مقاصد التصريحات الرسمية التي يهدف بعضها إلى الشعبوية أو مخاطبة جماهيرها الغاضبة أو المتطلعة أو لحفظ ماء الوجه والمناورة، سنحاول في مقاربة بسيطة أن نرسم حقيقة ما جرى خلف الكواليس مما يعرفه الساسة ولا يصرحون به ويناورون بعيداً عنه لاعتبارات وطنية وجماهيرية.
1?- الكل كان يعرف أن قرار ترمب بشأن إلغاء العمل بالاتفاق النووي مع إيران صادر ولا رجعة فيه، وصدرت تصريحات وإشارات سابقة من جهات مختلفة بواشنطن بذلك، وكانت محاولة الاختراق الأخيرة للقرار في أثناء زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لأميركا في 23 أبريل حين أرسل قبل الزيارة وزير خارجيته لودريان إلى طهران لمقابلة الرئيس الإيراني روحاني، وهو في الواقع لمقابلة المرشد علي خامنئي لعلمه أن مفاتيح القرار بيده، وأراد منه تطمينات بخصوص خمسة ملفات حتى يحملها معه ماكرون إلى واشنطن، وهي: تجارب تطوير الأسلحة النووية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية، والانسحاب من سورية، والدور الإيراني في اليمن، وموقفه من قضية القرن، والتدخل المباشر في العراق، وعاد لودريان إلى ماكرون بالموقف المتصلب لخامنئي الذي أسقط في يده، حيث لم تبق لديه أوراق ليفاوض فيها ترمب بشأن إنقاذ الاتفاق النووي، وقضى الضيف ثلاثة أيام في مجاملات بروتوكولية ما بين البيت الأبيض وماونت فيرنون وغرس شجرة السنديان في الحديقة، وزيارة نصب لنكولن، وأخذ صور السلفي مع بعض الزوار ومناقشة رسوم صناعة الصلب.
2?- اتخذ الرئيس الأميركي قراره حول الاتفاق النووي مع إيران وسط اختراقين كبيرين لأميركا بشأن النووي أولهما مع كوريا الشمالية، حيث تم اختراق كثير من شفرات الأسلحة النووية لبيونغيانغ بمساعدة الصين التي نفد صبرها من عنجهيات كيم جونغ أون، وهو ما دفع الرئيس الكوري الشمالي إلى الركض للقاء الرئيس الجنوبي وبومبينو وترتيب لقاء الرئيس الأميركي.
والاختراق الثاني لشفرات النووي الإيراني من قبل إسرائيل وبمساعدة أميركية، وبالتالي فصلابة ترمب في قرار الإلغاء لا يعتمد على قراراته الفجائية كما صورتها بعض وسائل الإعلام، ولا حرصه على تنفيذ وعوده الانتخابية، وإنما لأنه ملأ يديه بثقة باختراقي كوريا الشمالية وإيران، ولأنه يعلم أنه لا الصين أو روسيا سيقفان ضد ذلك، ولا مانع في أن تأخذ التصريحات الشعبوية مداها في الهجوم أو الرفض، ولا تخرج عن إطار التصريحات المعروفة أبعادها وأهدافها.
3?- الموقف الأوروبي معروف ومحسوم في الكواليس السياسية، لأن العلاقة بين ضفتي الأطلسي لم تعد هي الشراكة الإستراتيجية كما كانت أيام الحرب الباردة، القائمة على الندية والاحتياج المتكافئ بين أوروبا في شرق الأطلسي وأميركا غربه، وأصبحت أوروبا أكثر احتياجاً لأميركا في مواجهة روسيا بوتين والحزام والطريق الصيني والإرهاب الدولي، ولذلك حسمت بريطانيا موقفها في البريكست وماكرون بدأ في تصحيح وجهته تجاه أميركا، وتبقى ألمانيا ميركل التي ما زالت مسكونة بهاجس قيادة أوروبا اقتصاديا وسياسيا، رغم أن ميركل تحس باهتزاز قاعدتها الانتخابية، حيث لم تعد لها الأغلبية، واضطرت لتقديم التنازلات للمحافظة على شعبيتها، وهي تعلم في النهاية أن المفاتيح بيد واشنطن وليس الاتحاد الأوروبي.
4?- تغيرت اتجاهات تيارات القوة الاقتصادية والجيوسياسية التي كانت في العقود السابقة متجهة من الغرب الأوروبي والأميركي إلى الشرق الآسيوي، وانعكس الاتجاه من الشرق إلى الغرب، ولذلك بدأت محاولات أميركا منذ أوباما في الاتجاه نحو المياه الدافئة في الشرق الأقصى، ثم جاء ترمب بشعار لنجعل أميركا قوية، وهو يقصد أمام آسيا وليس أوروبا، وجاءت خطواته في فرض الرسوم وتعديل الميزان التجاري ضمن صراع قوى الشرق والغرب، ولا محور مؤثرا لأوروبا في هذا الصراع.
5?- عندما بدأ مشروع أوباما في الشرق الأوسط الجديد كان من أهم ملامحه التركيز على 3 دول إقليمية بالمنطقة، وهي إيران وتركيا وإسرائيل، وليس من بينها أي دولة عربية، ويعاد رسم خرائط دول بقية المنطقة وفقا للدول المحورية الثلاث: إيران من خلال الاتفاق النووي وأذرعها التوسعية في العراق وسورية واليمن وشمال إفريقيا، وتركيا من خلال مشروع الخلافة وبتمويل قطري في تثوير دول الخليج ومصر والسودان وشمال إفريقيا، وإسرائيل من خلال الحل السياسي الشامل لقضية القرن وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في إحدى 3 دول عربية مقترحة بعد نشر الاضطراب فيها، وبعد أن انكشفت هذه الخطة على الأرض وما جرته من آثار على مصالح أميركا الإستراتيجية بدأت الإدارة الأميركية بترتيبات إغلاق ملفات ترمب الشرق أوسطية، كما بدأ التفكير جدياً في دوائر القرار الأميركية في تصريحات الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الذي كان ينادي في عام 1976 بأن مشكلة الشرق الأوسط لن تنتهي إلا بحل مشاكلها في حزمة واحدة، وأن تناول قضاياها منفردة وعلى حدة لن يحل المشكلة، ولذلك بدأت الإدارة الأميركية في هذا التوجه، بحيث يتم حلها في العراق وسورية واليمن وفلسطين دفعة واحدة، وهذا الحل لن يتم بمعزل عن تقليم أظافر إيران وتركيا الخارجية وتدخلها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وإجبار إسرائيل على القبول بحل الدولتين كما طرحت في محادثات أوسلو، وتكون المباحثات على أساس المبادرة العربية التي قدمت في قمة بيروت 2002.
6?- هناك قناعة في واشنطن وموسكو وبكين وأوروبا بأن الدولة المحورية في الشرق الأوسط لا يمكن أن تكون إيران في ظل حكم الملالي، ولا تركيا في ظل الخلافة، ولا إسرائيل المرفوضة من العالمين العربي والإسلامي ظاهريا على الأقل وفقاً لمصالحها الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية، وأن الدولة التي يمكن أن تكون الدولة المحورية هي المملكة العربية السعودية لاعتبارات عديدة منها:
السعودية تتمتع بنظام حكم مستقبلي مستقر، وليست لديها عداوات مع الدول الأخرى مثل تركيا وإيران وإسرائيل.
السعودية لديها رؤية واضحة للتنمية الوطنية والإقليمية والدولية قائمة على الشراكات مع الدول جميعها، وليس الصراع أو العداوة.
المجتمع الشاب بقيادة شابة في السعودية يضمن النمو المطرد لسنوات قادمة وليس محملاً بتركة من الانهيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وأخيرا فإن تحول اتجاهات تيارات القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق يجعل السعودية هي العنصر الوحيد الثابت في تغير الاتجاه شرقا وغربا، ولذلك كان التنافس الكبير بين الدول الأكبر في العالم على الاستثمار في السعودية أو استقطاب الاستثمار السعودي، سواء من الصين التي ترى السعودية الحلقة الأهم في مشروع الحزام والطريق مروراً برواق الطاقة، واليابان التي ترى في شراكتها مع السعودية الفتية حلاً لأزمتها المقبلة مع الشيخوخة وروسيا التي وجدت أن شراكتها مع السعودية أجدى من شراكتها الإستراتيجية مع إيران، بالإضافة إلى أنها لا تقبل أن تكون دولة نووية على حدودها حتى لو كانت إيران، وأميركا التي وجدت عبر تجربتها طيلة العقود الماضية أن حلفها الإستراتيجي مع السعودية لم يهتز أو يتأثر طيلة الحرب الباردة، وأن دورها وتأثيرها الخليجي والعربي والإسلامي والدولي لا يمكن أن تحل محله أي دولة أخرى.