مع إعلان الميزانية العامة للدولة يستشعر المواطنون ملامح صورة الغد القريب ويضعونها إلى جانب الصور الزاهية التي دفعت بها مسيرة التنمية على مدى السنوات، انطلاقا مما اعتمدته ميزانياتها من برامج ومشاريع ضخمة تصب في مصلحة المواطن ورفاهيته.
وبلا شك فإن إعلان الميزانية هو حدث كبير ومهم، ليس فقط للمختصين من الاقتصاديين ورجال الدولة فقط، ولكن أيضاً للمواطن العادي الذي يهمه من الحياة توفر أساسياتها: قوت يومه ومسكنه وتعليم أولاده وصحتهم ومستقبلهم. يتساءل هذا المواطن، ويحق له أن يتساءل وهو يسمع عن الميزانية بأرقامها الفلكية وخاصة ما يخصص لقطاعات التعليم والصحة والخدمات والنقل والاتصالات، ترى كيف ستنعكس أرقام هذه الميزانية على مستوى معيشتي ورفاهيتي بشكل عاجل لا آجل؟ هل سيزداد دخلي، ولو بالقدر الذي يغطي التضخم الذي استقر مؤخراً عند نسبة 6% سنوياً؟ هل سأجد تعليماً أفضل لأبنائي وبناتي؟ هل سأجد مسكناً معقولاً لي ولأسرتي؟ هل سيجد أبنائي وبناتي وظائف تقيهم غائلة البطالة؟ هل سأجد خدمات صحية مناسبة إذ احتجت إليها؟ هل سأجد وسائل للنقل وطرقات تخفف عني عبء المواصلات المأزومة؟ وكيف سأستفيد على الصعيد المعيشي، الآني والمستقبلي، من هذه الميزانية العظمى؟ باختصار هل سيكون هذا العام أفضل من سابقه وهل ستحل الميزانية أزمات الحياة العامة والخاصة للمواطن؟
تمثل كل هذه الأسئلة اهتمامات المواطن البسيط في سعيه لأن يعيش حياة كريمة لائقة في وطنه الذي لم يبخل عليه بالأرقام الكبيرة في ميزانية الخير والرفاهية. فقد جاءت ميزانية العام الجديد 1432 /1433 مركزة على المشاريع التنموية التي تعزز استمرارية النمو والتنمية طويلة الأجل، وبالتالي زيادة الفرص الوظيفية للمواطنين، حيث وزعت الاعتمادات المالية بشكل رُكّز فيه على قطاعات التعليم، والصحة، والخدمات الأمنية والاجتماعية والبلدية، والمياه والصرف الصحي، والطرق، والتعاملات الإلكترونية، ودعم البحث العلمي. كما تضمنت الميزانية "برامج ومشاريع جديدة ومراحل إضافية لبعض المشاريع التي سبق اعتمادها تبلغ قيمتها الإجمالية نحو (000,000,000, 256) مئتين وستة وخمسين مليار ريال".
هذه الميزانية هي خير ونعمة حبانا الله بها وعلينا العمل للاستفادة منها بما يحقق النفع والرفاهية على المواطنين وعلى دفع مسيرة التنمية الإنسانية بشكل منهجي مدروس وبشكل يوازن بين احتياجات الأجيال المتعاقبة. وهنا نجد بالفعل استمرار التركيز في هذه الميزانية على المشاريع التي تعزز تواصل النمو والتنمية طويلة الأجل وبالتالي زيادة فرص التوظيف، حيث وزعت الاعتمادات بشكل مركز على قطاعات التعليم والصحة والخدمات الأمنية والاجتماعية والبلدية والمياه والصرف الصحي والطرق والتعاملات الإلكترونية ودعم البحث العلمي، فالتعليم اعتمد له 150 مليارا تمثل نحو 26% من النفقات المعتمدة، فيما خصص للخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية 68.7 مليار ريال بزيادة قدرها 12% عن العام الحالي، أما الخدمات البلدية فحظيت بنحو 24.5 مليار ريال بزيادة قدرها 13 في المئة عن السابق، كما بلغ المعتمد للنقل والاتصالات 25.2 مليار ريال بزيادة 5 في المئة عما خصص لها في العام الحالي، أما المياه والزراعة والتجهيزات الأساسية الأخرى فقد بلغ المخصص لها 50.8 مليارا بزيادة قدرها 10% عن السابق، كذلك ستواصل صناديق التنمية المتخصصة وبرامج التمويل الحكومية في المجالات الصناعية والزراعية وغيرها تقديم القروض بما يدعم مجالاتها ويسهم في الوقت نفسه في توفير فرص وظيفية إضافية.
تلك مجرد إشارات نوعية لما حملته الميزانية الجديدة من بشائر خير تؤكد على الأسس الاستراتيجية التي تبنتها الدولة للتنمية المستدامة مستهدفة الإنسان المواطن صانعها والمستفيد الأول من ثمارها. ومن هنا، وحتى لا تكون هذه الميزانية مجرد أرقام لا تلامس حياة المواطن بشكل مباشر، يبرز السؤال المهم حول متطلبات بناء الإنسان حتى يستفيد من المبالغ والأرقام التي حملتها هذه الميزانية. إن المبالغ الضخمة والأرقام الكبيرة التي تصرف على قطاع التعليم والتي تمثل 26% من الميزانية لا تزال قاصرة عن ردم الهوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. فتعليمنا مازال يرزح تحت أنظمة بيروقراطية ويعاني من ترهل أفقده القدرة على خوض سباق الحضارات ومنافسة العالم الجديد بما يتطلبه من مهارات وكفاءات.
أما المشاريع الجديدة في ميزانية العام القادم فقد خصص لها 256 مليارا. وحتى يكون لهذا الرقم مدلول أكبر ينعكس بصورة إيجابية على حياة المواطن وتحسن نوعيتها، فلا بد أن تكون هناك آليات واضحة للتنفيذ بحيث لا تتعثر المشاريع ولا تنتهي بمعايير أقل من المعايير العالمية المقبولة فتعثر المشاريع يشكل أكبر كارثة تهدد مسيرة التنمية.
كما أن هذه المشاريع الكبيرة لا بد أن تنعكس بشكل إيجابي على مستوى البطالة وخلق فرص عمل جديدة، وإلا فإننا نظل ندور في حلقة جلب العمالة الوافدة لإنجاز جميع حاجياتنا من أصغرها وحتى أكبرها. كما أنه من المؤمل أو المفترض أن تؤدي هذه المشاريع الكبيرة إلى فتح مجالات جديدة للعمل كالسياحة والفندقة، وتعزيز مشاركة المرأة في هذه المجالات عن طريق سن التشريعات وتحديث ما هو موجود منها وتفعيل المغيب منها.
والميزانية، في نهاية المطاف، تظل مجرد أرقام تتلوها أصفار ما لم يواكبها عاملان مهمان: أولهما بناء الإنسان كي يصبح قادراً على إدارة هذه الأرقام والاستفادة منها بالكفاءة المطلوبة؛ وثانيهما هو وجود أنظمة واضحة ومعلنة لا تسمح بانكماش تلك الأرقام إلى النصف أو الثلث عند التنفيذ، بالإضافة إلى وجود أجهزة رقابية لمتابعة مراحل البناء والتنفيذ لكل المشاريع والخدمات خطوة بخطوة لمنع التلاعب والتحايل وهدر الوقت والمال العام. فالمواطن يهمه حقاً أن تتحقق تنمية البنية التحتية لمدينته أو قريته بشكل متكامل وأن يرتفع مستوى معيشته. فهل سيبدأ الدخل الحقيقي والفعلي للأسرة السعودية في الارتفاع مجدداً بعد أن ظل ينخفض باستمرار على مدى السنوات الماضية بفعل عوامل مختلفة ليس أقلها التضخم وانخفاض قيمة الدولار؟