على نطاق واسع شاع في الثقافة السورية والعربية لاحقاً اسم سعدالله ونوس كأهم كاتب مسرحي، وجاءت إصابته بمرض السرطان في آخر حياته، حيث عاش مصارعاً له فترة ليست قصيرة، لتعطي بعداً درامياً لحياة هذا الكاتب المسرحي، الذي ونتيجة لشهرته عربيا، وعلاقاته الممانعة مع اليسار العالمي، وإصابته بالسرطان، حصل على فرصة إلقاء كلمة أحد أيام المسرح العالمي، حيث كتب جملته الشهيرة «نحن محكومون بالأمل». لتعمل آلة الترويج بأقصى استطاعتها، من خلال إعلام النظام السوري وإعلام الممانعة ككل، إضافة لمثقفي اليسار الممانع وكتبته في أي إعلام كانوا؛ لتصدح بأن تلك مكانة لا يصل إليها إلا الكتاب العالميون الأفذاذ.
مثل كل القراء السوريين من جيلي شربت خديعة أهمية سعدالله ونوس صغيراً، إذ يندر أن تجد مادة عن المسرح في جرائد النظام لا يمر فيها اسم سعدالله ونوس، ليس فقط جرائد النظام، بل أيضا في وسائل إعلام المقاومة الفلسطينية التي كانت تشغل حيزا لا بأس فيه من حجم المطبوعات الثقافية للسوق العربية في وقت من الأوقات، كذلك في مطبوعات لبنان، المزود الأبرز في القطاع الثقافي المشرقي، والتي سيطر على معظمها، خصوصا القسم الثقافي، لفترة طويلة اليسار اللبناني والسوري والعربي الممانع. وكان من الطبيعي أن يروج اسم سعدالله ونوس لأنه يقدم نصّاً ممانعاً تبسيطيا تعميميا شعاراتيا. وإذا أضفنا تحميله «الأنظمة» مسؤولية الهزيمة، بإطلاقٍ لا يلامس أي نظام، ويساوي بين مسؤولية نظام جيبوتي ومسؤولية حافظ الأسد الذي كان وزير دفاع الهزيمة! يصبح مفهوماً كيف يصنف معارضاً من جهة المثقفين التقدميين ويتبناه نظام الهزيمة في الوقت ذاته! ونظرا لقلة قراءة المسرح وقلة عروضه أيضا وقلة نقاده وكتابه، شاع اسم سعدالله ونوس ككاتب مسرحي مهم أو الأهم، دون أن يقرأه الكثيرون! بل أكاد أزعم أن الغالبية العظمى لم تقرأ سوى جملته ذائعة الصيت «نحن محكومون بالأمل».
نعم؛ أنا أحد الذين وقعوا في الخديعة أيضاً، حتى أني أهديته نصّاَ شعريا قصيراً فيه حضور للمسرح، عند نشره في أحد المواقع الثقافية، لكني حذفت الإهداء لاحقا عندما صدر في كتاب، فقد تعرفت حينها على سعدالله ونوس من خلال قراءته، وجلست أتساءل كيف شربت خديعة أهمية ونوس دون قراءته! أنا الذي لا يسلم عقله للقطيع بسهولة.
منذ ذلك الوقت، أي ما يقارب عقد ونصف، وأنا أغص بهذه الخديعة التي لم يوقعني فيها إعلام النظام وزبانيته وأزلامه من المثقفين والكتبة، بل أوقعني فيها كتاب اليسار ممن سجن بعضهم النظام ويصنفون دائما في خانة المعارضين، إذ لم يكن وعيي ذلك الحين يستطيع فكفكة الشبكة المعقدة والجسور الدائمة بين النظام والكثير من معارضيه اليساريين، وبعضهم إضافة ليساريته، لديه جسر سري آخر هو الانتماء لطائفة النظام، وهذا كان حبلا سريّاً عصيّاً على فهمي ذلك الحين.
رغم أهمية ما ذكرته عن القيمة الفنية لمسرح سعدالله، لكن هذا يظل من وجهة نظري موضع خلاف، فلا أسفّه رأي من يعتبره مهما، ولكن مركز النقاش في هذه المادة يتعلق بالسياق الثقافي - السياسي لتكريس اسم زميلي ونوس المؤمن بـ«الاشتراكية العلمية» كالنظام تماما ومسرحه، بتوجهاته المباشرة في البحث عن وسائل النصر على إسرائيل التي «سرقت السنوات الجميلة من عمره» وتبدو خلفية لكل أعماله، لأنها «أفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً مثلاً، الكثير من الفرح وأهدرت الكثير من الإمكانات» كما يقول في لقاء معه. نعم إسرائيل، ولا ذكر لنظام حافظ الأسد مطلقاً. تماماً بالضبط هنا بيت الخديعة ومربطها وحل اللغز كيف تبدو معارضا وأنت أحد الأعمدة الثقافية للنظام!
صعد سعدالله ونوس مع صعود نظام حافظ الأسد، حتى أن اسمه تأسس مع هزيمة 7 حزيران 1967 التي كان حافظ الأسد خلالها وزيرا للدفاع. حيث كتب ونوس إثرها بقليل مسرحية خطابية شهيرة تنتقد تلك الهزيمة وتحيلها للشعوب والأنظمة.
لعلنا نلاحظ أن مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» نشرت ضمن منشورات المسرح الفلسطيني، الذي من الطبيعي أن يحتفي بنقد الهزيمة، حيث يحمّل الفلسطينيون الأنظمة العربية مسؤوليتها، وكمسرح معركة فإنه كلما كان المسرح بسيطا شعاراتياً مقاوماً، كلما حصل على حظوظ وافرة في التبني والترويج. وإضافة لدار الآداب، ذات التوجه العروبي الممانع منذ الأزل حتى الأزل، التي نشرتها لاحقا، فإن الأهم أن المسرحية نشرت في مجلة مواقف التي يقودها الشاعر علي أحمد سعيد إسبر الذي لقب نفسه بأدونيس، ويدّعي أنه لبناني! هذا تفصيل قد يساعد في شرح خديعة سعدالله ونوس الذي شربناه جميعا.
يبدو تبني المسرح الفلسطيني لهذا النص مفهوماً، لكن تبني إسبر اللبناني الذي كتب قصيدة شهيرة يمتدح فيها ثورة الخميني ويصلي لقُم كي تجتاح الخليج، لأن هذا هو طريق النصر على إسرائيل! التي «سرقت السنوات الجميلة من عمر ونوس»! يكشف الشبكة المعقدة بين حافظ الأسد وزير دفاع الهزيمة وقائدها ذلك الحين، والشاعر إسبر الذي يدعي أنه لبناني ويناصر الخميني والمسرحي سعدالله ناقد الهزيمة! إنهما جناحان ثقافي وسياسي لنفس الفكرة «النبيلة» الممانعة ضد «العدو الصهيوني» و«الرجعية العربية» أليس كذلك!
حسناً، مع انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة وتبنيه لشعارات ونهج أقل يسارية من عهد صلاح جديد، الذي رماه في السجن هو وبقية القيادات البعثية، بدا أن هناك انفتاحا على مثقفي التيار القومي السوري والقومي غير البعثي، وكذلك اليسار التقليدي والموالين جميعاً للثورة الفلسطينية، التي كانت قضية أساسية لجل المثقفين العرب ذلك الحين. من هذه المساحة التي تبدو طبيعية، بدأ نظام حافظ الأسد تكريس رموزه في السياق العربي اليساري الممانع، وكان جلهم بالمصادفة من طائفة رئيس النظام وأركان مخابراته وجيشه، إضافة لكتاب آخرين كان دورهم التعمية؛ إذ لم يكن هناك صدفة في عهد الأسد الأب.
حسناً مرة أخرى، اشتغل الكاتب المعارض سعدالله ونوس في مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة الثقافة، ثم أصبح رئيسا لتحرير مجلة الأطفال أسامة التي تصدرها وزارة الثقافة أيضا، لتربي الأطفال على كراهية العدو الإسرائيلي الذي سرق عمر الأستاذ سعدالله، ثم أعطوه مسرح القباني حيث عرض مسرحياته على الأرجح، ثم أسس فرقة للمسرح التجريبي تستلم رواتبها من وزارة الثقافة على الأرجح أيضاً، وأسسوا له أو سهلوا له أو أسس مهرجان دمشق المسرحي تحت مظلة وزارة الثقافة وميزانيتها أيضاً، وأيضاً مع ما أتاحه ذلك من علاقات و«تربيط» مع الفرق المسرحية التي يشكل لها هذا المهرجان نافذة مهمة للحضور العربي، فقدمت إحدى هذه الفرق مرة على الأقل أحد نصوصه الممانعة لتصبح على قائمة المشاركة كل عام. أيضا لا ننسى ما يتيحه المهرجان أيضا من علاقات مع نقاد المسرح «النزهاء» المدعوين على حساب وزارة الثقافة، فكلكم تعرفون الآن نزاهتهم أو سمعتم عنها، ومعهم الصحفيون الثقافيون، فيكتبون عنه وعن مسرحه ما يضمن بقاءهم على قائمة المدعوين، هذا في حال لم يكونوا مؤمنين بالاشتراكية العلمية والممانعة مثله! ثم أسسوا مجلة مسرحية في الوزارة التي يعارض نظامها، مخصصة له ليرأس تحريرها، ثم عالجه حافظ الأسد عندما مرض على حسابه «أي من مصروفه الشخصي»، ثم التقاه، ثم شكره، ثم هكذا مات معارضاً عليه رحمة الله!
أعتقد أن هذا سياق طبيعي محترم في أي دولة تحترم نفسها وكتابها المعارضين، حتى لو كان هناك خلاف على قيمتهم الفنية. لكن أيها القارئ السوري الكريم والعربي وأي شخص بالعالم يقرأ بالعربية؛ هذا السياق كان يحدث مع الكاتب المسرحي الذي يقدم على أنه معارضاً في سورية، التي إن لم تشاهدوا فظائع نظامها سمعتم عنها على الأقل!
استنتج أنت بنفسك عزيزي القارئ بالعربية وليس شرطاً أن تكون سوريا أو عربياً، دون أي توجيه أو ضغوط عاطفية مني، ودون أن تأخذ مظالم أي من الكتاب المحبوسين أو المنفيين أو المعذبين في البلاد بعين الاعتبار، استنتج من خلال علاقة المسرحي المعارض سعدالله مع نظام حافظ الأسد؛ «أيه النظام الدلال المعارض ده»! أو «أيه الدلال النظام المعارض ده»! أليس كذلك أيها القارئ الكريم! الذي سمع بالنظام الذي نتحدث عنه، والذي ثلث كتاب البلاد التي يحكمها، ممن لا يوالون البراميلي وأبيه في السجون، وثلثهم في المنفى، وثلثهم المتبقي في الصمت!
حسنا عزيزي القارئ، أصبحت المعادلة بسيطة الحل، فإذا آمنت بالفيزياء والعلم و«الاشتراكية العلمية» على وجه الخصوص، وأن العدو الأساسي في الحياة هو الصهيوني ولا أحد غيره، وإن لم تقترب من النظام الذي سحق الناس ودمر حتى البيئة، يصبح ممكنا أن تقودك يد المصادفات العمياء كما قادت سعدالله ونوس الكاتب المسرحي المتواضع من وجهة نظري والمعارض من وجهة نظر غالبية القراء، إلى هذه المواقع التي تسلمها وأتاحت له أن يكرس اسمه، ويصبح ممنوعا نقده، حتى على طلاب قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية، كما ذكر العديد من الطلاب! وهذا المعهد نفسه استثني أصلا من مفاضلة القبول العامة للدراسة الجامعية إضافة لكلية الصحافة والفنون الجميلة، ليتيح ذلك لأجهزة المخابرات التدخل في قبول هذا الطالب ورفض ذاك، لتصبح عناصر الثقافة جزءا من عناصر المخابرات.
زميلي سعدالله ونوس، مثال بارز على المعارضة الموالية للنظام، ما تزال فاعلة وناشطة في السياق السوري والعربي، وما تزال عائلته ماضية قدماً في وضع اسمه معارضا للنظام، مرة من خلال تصفية حسابات مالية مع اتحاد كتاب النظام الذي يحتقره الجميع بما فيهم عناصر المخابرات، ومرة من خلال عدم الاهتمام بمكتبته ووضعها في إحدى المكتبات العامة، في الوقت الذي تحولت مكتبات نصف السوريين إلى وقود لحرائق البراميلي وهو يبيدهم ويقتلعهم من جذورهم إلى القبر أو التشرد. وإذا أضيف للعائلة صهراً يعمل في أحد أهم الصحف العربية الدولية، تصبح أخبار زميلي حاضرة دائما في الصحافة الثقافية العربية حتى بعد انتقاله لرحمة الله معارضاً.
وفقاً لهذا السياق يصبح ممكناً أن يتضامن مع ابنة زميلي «الكاتب الراحل المعارض» رحمه الله، عشرات الكتاب والمثقفين السوريين والعرب، إثر مشاجرة لها مع سائق «سرفيس» في بيروت، في الوقت الذي كان فيه ضحايا البراميلي يوميا بالمئات، وينشرون بيانا التضامن في الصحف والمواقع وشبكات التواصل؛ وهو ما تم سحبه لاحقا من أغلبها لأنه يشكل فضيحة ثقافية. بل ويصبح ممكناً أن تصعد رواية لابنة الكاتب المعارض الممانع إلى القائمة القصيرة لأبرز جوائز الرواية العربية لأن أبيها مد لها يده من قبره، وأقنع لجنة التحكيم التي تسري في عروق بعض أعضائها الممانعة بأنها تستحق الصدارة لأن تلك «الشبلة» من ذاك الأسد.