يمثل المعلم نقطة الارتكاز الأساسية، والمحور الأهم الذي يحرك العملية التعليمية برمتها، بجميع ما تتضمنه من مكونات مادية وبشرية، سواء ما يتعلق منها بالإطار المدرسي، وبما يحتويه من طلاب ومقررات ومناهج ووسائل تعليمية وبيئة مدرسية بمجملها، أو بما يحكمه خلال الإدارة المدرسية المنظمة للعملية التعليمية في إطارها المدرسي، إضافة إلى ما يخضع له «المعلم» نظاما من هيكل مؤسسي كقائد ومُشرٍع ومسؤول ومتابع للعملية التعليمية بجميع مكوناتها في إطارها العام، والذي يشمل كل ما يُشرع ويُنفذ في المدارس من أنظمة وتشريعات وما يُفرض من مناهج ومقررات صفية ولا صفية، إضافة إلى ما يخضع لمسؤولياته «الهيكل المؤسسي» من متابعة لمدى صلاحية المباني المدرسية، وما يلحق بها من بيئة تعليمية ملائمة وإدارة فاعلة وغير ذلك من مستلزمات نجاح العملية التعليمية.
وإذا ما اعتبرنا أن جميع مكونات العملية التعليمية السابق ذكرها، مُمكٍنات يتطلب توفيرها بمستويات ومعايير مقبولة إلى حد كبير، لتمكين المعلم من أداء دوره المهني المأمول، وبما يساعده على ترجمة العلوم والمعارف التي تتضمنها المقررات والمناهج إلى مفردات مقروءة ومعارف مسموعة، ونماذج مرئية مؤثرة وجذابة في محتواها ومضمونها، بحيث يتمكن المعلم من غرسها في عقول طلابه بمرونة يستوعبونها، ويبنيها في نفوسهم كسلوكيات يمثلونها، بما أوتي من علم وما يخدمه من وسائل تعليمية ومهارات وقدرات مضافة إلى تعليمه، ليتلاءم مع متطلبات التعليم الحديث وأدواته، وذلك لن يتحقق إلا برعاية إدارة مدرسية داعمة ومنظمة للعمل، ونظام تعليمي عام يحترم مهنة المعلم ويقدر مسؤولياته المتخصصة ويلتزم بأجره اللائق وبحوافزه المطلوبة، فإن ذلك جميعه هو مستحق لكل معلم يعمل في الميدان التربوي، وعليه يكون تقييم مستوى أدائه ونجاحه في الإسهام في نجاح العملية التعليمية وجودة مخرجاتها.
ولذلك، فإن إلقاء اللوم دوما على المعلمين بتقصيرهم في أداء مهامهم المدرسية، وفي مستوى تأهيلهم، سواء في مستوى تمكنهم من المادة العلمية أو في طرق تدريسهم، وتبرير ذلك وتفسيره بمخرجات الجامعات الضعيفة، فإن ذلك فيه إجحاف كبير لتقييمهم ولمستحقاتهم المطلوبة. وعلى الرغم من أن ذلك فيه شيء من الحقيقة لا يمكن إنكاره، إلا أن ذلك ليس كل الحقيقة، إذ يسهم النظام المدرسي والبيئة المدرسية المتاحة وما يجده المعلم من تقدير مادي ومعنوي، في التأثير على جودة عطاء المعلم ومدى الاهتمام بالارتقاء بأدائه إيجابا أو سلبا، وذلك لارتباط عطاء المعلم بطبيعة الأنظمة والقوانين التي تطبقها المدارس، بناءً على السياسة العامة للتعليم، والتي تبلور رؤيتها لدور المعلم في إطار النظام التعليمي العام من جهة، وطبيعة البيئة المدرسية المتاحة لتنفيذ تعليم مميز من جهة أخرى.
ومما لا يخفى علينا، أنه من المعتاد لدينا في المدارس أن يقوم المعلم بأعباء إضافية لعمل التدريس، لا تتصل بدوره المهني، كالإشراف أو البيع في مقاصف المدرسة أو المراقبة في الساحات، أو بين الفصول لحفظ النظام، أو الانتظار في نهاية الدوام عند بوابة المدرسة حتى تخلو المدرسة من طلابها، أو الإعداد لمناسبة من المناسبات التي تتعلق بإدارة المدرسة ومسؤولياتها، أو غير ذلك من الأمور الخارجة عن نطاق التدريس ومتطلباته، هذا إلى جانب ارتفاع نصيبه من الحصص اليومية التي تجهده صحيا وذهنيا، وبما يؤثر على مستوى عطائه وتعامله، فضلا عن تكدس الفصول بالطلبة أو الطالبات بما يحول دون إمكان التواصل والتقارب بين المعلم وطلابه، لاستدراك مستوى تحصيلهم ومتابعتهم عن كثب، وذلك يمتد بدوره إلى صعوبة أو عدم إمكان استخدام أساليب التدريس المتقدمة، ووسائل التقويم المتنوعة التي لها أثر إيجابي على الإبداع في العطاء والمصداقية في التقويم والعمق في التأثير المعرفي عند الطلاب، كما يلحق بذلك مدى توافر الوسائل التعليمية المناسبة، ومدى ملاءمة الفصول حجما وبناء وتهيئةً، وذلك يشمل المقاعد والطاولات المريحة والتهوية المناسبة -صيفا وشتاء- والإضاءة الجيدة، وما يتبع ذلك من خدمات ضرورية تلحق بالبيئة المدرسية كأساسيات تخدم راحة الطالب والمعلم، كتوافر دورات المياه الصالحة والنظيفة، والفناء المدرسي المناسب، والغذاء الصحي في المقاصف وغير ذلك من مستلزمات الراحة المطلوبة، هذا إلى جانب الترفيه الملائم المطلوب توفيره للطالب، ليتمكن هو بالتالي من استقبال ما يقدم له من معلومات بنفسية مرتاحة وعقلية يقظة، تمكّنه من التحصيل الجيد، فتكون المدرسة بذلك مكانا يسعون إليه وليس مكانا يهربون منه لمتطلبات ورغبات مختلفة.
وكما أن للمعلم مستحقات على الجهات المسؤولة عن التعليم، بتوفيرها وإتاحتها في كل المدارس ليتمكن المعلم من أداء دوره بالشكل المأمول، والذي عليه يمكنها محاسبته أو مكافأته في تقصيره أو إنجازه، فإن على المعلم واجبات يفرضها نظام المهنة والتزامه بتحمل مسؤولية مهنته وما تستلزمه تلك المهنة من تمكين علمي لما يقوم بتدريسه، خلال الإعداد الجيد لما يوكل إليه من مقررات، وما يطلب منه من مستجدات تتعلق بتدريسه، وذلك يتطلب أن يبحث ويعمل المعلم دوما على تطوير أدائه والارتقاء بمهاراته وقدراته، بما يتواءم مع التطور العلمي والتقني، وبما يتضمنه التعليم الحديث، بحيث لا يستمر نموذجا يكرر نفسه سنويا دون أي إضافات تطويرية ملحوظة وملائمة، هذا إضافة إلى أهمية الالتزام بالجدية والمثابرة والإخلاص في الأداء، ليس لأن ذلك من متطلبات المهنة فقط، بل لأنه كذلك قدوة لطلابه وقائدا تربويا يُحتذى به في جميع سلوكياته وأدائه، والذي ينعكس على طلابه الذين يمثلون شباب المجتمع ومستقبله الواعد، وهو بذلك مسؤول عن غرس القيم الأخلاقية والمبادئ الوطنية والأساسيات الدينية، إلى جانب ما يقوم به من تعليم للمعارف والعلوم المختلفة، فهو نموذج مؤثر ومربٍ مسؤول.
ولذلك، فإن نجاح العملية التعليمية مرهون بجهود مشتركة وتوافق رؤى وتبادل منافع وسياسات مسؤولة، بين الجهات المسؤولة نظاما عن مسيرة التعليم وجودته ومستوى أدائه، وبين الموارد البشرية التي تمثل عصب العملية التعليمية، ممثلة في المعلم الكفء والمربي الصالح، والذي لن يتمكن من بلورة دوره الحقيقي في العطاء، إلا بتوفير بنية تحتية أساسية لتمكينه من العطاء الجيد في: الإطار المدرسي بجميع مكوناته الداعمة، والنظام المؤسسي المساند، والجهد الشخصي لذات المعلم، وبذلك يمكننا القول إن المعلم كاد أن يكون رسولا.