يتقاطع ملف السياسات الاقتصادية وملف التناغم الاقتصادي في شؤون كثيرة. فالتناغم الاجتماعي كما ورد في المقالة السابقة يؤدي إلى تحويل العامل الوافد من مورد بشري مؤقت يسهم في تقليل التكلفة فقط إلى مورد بشري نام يؤدي إلى تدعيم الاقتصاد الوطني. ومن هذه الزاوية قد يكون السعي وراء تقوية التناغم الاجتماعي سياسة اقتصادية بحد ذاتها تقف إزاء جملة من السياسات الاقتصادية الموجهة نحو تحقيق أفضل فائدة اقتصادية من العمالة الوافدة. ومن الضروري أن نقف على طبيعة الوضع الحالي، وفق السياسات الاقتصادية القائمة، لنعرف مدى قربنا من تحقيق هذه الفائدة. العمالة الوافدة التي تعمل لدى المؤسسات تسهم في تخفيض التكلفة على التاجر مما ينعكس بشكل مباشر على أسعار الخدمات والبضائع التي يستهلكها الفرد. والعمالة الوافدة لدى الأفراد تسهم في تخفيف الأعباء المنزلية مما يسمح بتوجيه قدرات العمل لدى أفراد العائلة لتكون أكثر إنتاجية. ربما كانت هاتان هما السياستان الاقتصاديتان الكلاسيكيتان اللتان تقفان وراء وجود أكثر من ثمانية ملايين عامل وافد في السعودية. وقد تحققت بموجبهما فعلاً فائدتا انخفاض تكلفة المعيشة وارتفاع القدرة الإنتاجية على مستوى العائلة، ولكن تحت سطوة سؤالين مهمّين: حتَّام؟ وبأي ثمن؟

إن توافر العمالة الوافدة الرخيصة هو أحد العوامل التي تسهم في انخفاض تكلفة المعيشة، ولكن ثمة عوامل أخرى. وإذا كان بوسع السعودية الاستمرار في استقدام العمالة الرخيصة، رغم أن ذلك ليس مضموناً بطبيعة الحال، فربما لا يكون بوسعها الاستمرار في ضبط بقية العوامل التي، إن لم يتم ضبطها، فلن يعود للعمالة الرخيصة دورٌ في خفض تكلفة المعيشة، وبالتالي تنعدم فائدتها. إن انخفاض تكلفة المعيشة في السعودية اليوم سببه الرئيس هو الدعم الحكومي للكثير من السلع الأساسية وعدم وجود ضرائب دخل ومبيعات وعقار. وهو سبب حكومي مباشر، تنفق من أجله الدولة من المال العام، وتتكبد بموجبه خسارة محققة. فكل سلعة يتمتع بها المواطن بسعر أقل من الأسعار العالمية لا يعني أنها تحققت له بسعرها العادل، ولكن يعني أنه دفع جزءًا منه ودفعت الدولة عنه بقية سعرها ابتداءً من الأرز والمياه وانتهاءً بوقود السيارات والخدمات العامة.

الدعم الحكومي ليس السبيل الأمثل لتحقيق رفاهية المواطن بقدر ما هو السبيل الأسهل. وهي سياسة اقتصادية خليقة بالاقتصادات الناشئة وليس الاقتصادات الواعدة. ثمة مشاريع أجدر بالإنفاق عليها من أموال الدعم الحكومي، وتحقق نماءً لهذه الأموال بدلاً من تبديدها بشكل مباشر في بنزين منخفض وبضاعة رخيصة. ويوماً ما سنضطر، كما اضطرت دول العالم، إلى اتخاذ القرار الأنفع بالتقليل من الدعم الحكومي وترك الأسعار تتحدد وفقاً لميكانيكيات السوق. وعندها سترتفع تكلفة المعيشة عما هي عليه، ولن تستطيع العمالة الرخيصة وحدها كبح هذا الارتفاع. إذن، الدعم الحكومي والعمالة الرخيصة يشتركان في كونهما عاملين مؤقتين من عوامل خفض تكلفة المعيشة، ولا بد أن يتوقفا يوماً ما، الأول لأنه غير مجد اقتصادياً على المدى البعيد، والثاني لأنه غير مضمون كما أنه غير مجدٍ في حالة غياب السبب الأول. ولا يبقى أمام المجتمع سوى تبنّي السياسات الاقتصادية الحديثة لتخفيض تكلفة المعيشة وهي: رفع الكفاءة الإنتاجية، ودعم التنافسية، وغيرها.

أغلب السياسات الاقتصادية الحديثة يتطلب تغييرات جذرية في مواقع العمالة الوافدة من مجتمعنا. الغريب أن إنتاجية المواطن منخفضة لقناعته أن الوافدين يسرقون فرصه ويهددون مستقبله، وإنتاجية العامل الوافد مؤقتة لقناعته أنه عرضة لـ(الخروج النهائي) في أي لحظة. ثمة سياسة اقتصادية رديئة تقف وراء هذه الحال، ولا بد من معالجتها ليتحقق الأمان الوظيفي، الرافد الأهم للإنتاجية، لكل من المواطن والوافد. وليسمح لي المواطن أن أقول إنه لن يكون أكثر أماناً لو منعنا العمالة الوافدة من الوظائف العليا وتركناها مقصورة على المواطن، لأن هذا سيؤدي إلى خلل مباشر في حسابات المستثمرين قد يؤدي إلى تسرب استثماراتهم خارج الحدود مما يؤدي إلى وظائف أقل وبطالة أعلى، وأي تدخل حكومي لإجبار المستثمرين على البقاء داخل الحدود لا يمكن أن يتم إلا بطريقتين كلتاهما ضارتان بالاقتصاد الوطني: إغراؤهم بالبقاء عن طريق تسهيلات مالية ينفق عليها من خزينة الدولة مباشرة (دعم حكومي للتجار!)، أو إجبارهم على البقاء بضغوطات سياسية أو قانونية أو حتى شخصية، وهذا نسفٌ لآليات السوق الحر التي تجاهد المملكة لحمايتها، ويقربنا أكثر من النموذج الاشتراكي المنفّر للمستثمرين.

لا يمكننا إطفاء هذه المشاعر السلبية بين المواطن والمقيم، على مستوى التنافس الوظيفي، دون تحقيق المساواة بينهم. وقد يشعر المواطن أنه من حقه أن يحظى بنصيب أوفر من خيرات بلده، ولكن للأسف أن الاقتصاد أكثر تعقيداً من هذه الفكرة المباشرة. إذا ظلّ المواطن يشعر أن (سعوديّته) وحدها يفترض بها أن تكفل له وظيفة جيدة ودخلاً مرتفعاً، وظل المقيم يشعر أن فرصته مؤقتة وبقاؤه مهدد. فكلاهما سيعمل بشكل سلبي. الأول بإنتاجية منخفضة، والثاني بإنتاجية عالية ولكنها ليست موجهة للاستمرار والنماء والبقاء، وسرعان ما تقطف ثمرة إنتاجيته دولة أخرى تمنحه جواز سفر أنيقا فقط مقابل كل سنوات خبرته ومدخرات حياته. الطريقة الوحيدة لإيقاف هذا الدوران العكسي لعجلة الاقتصاد هو وضع الجميع على قدم المساواة حتى تصبح الإنتاجية وحدها هي المحكّ الرئيس، وترتفع بذلك الكفاءة الإنتاجية للاقتصاد ككل، وتتخلق أجواء تنافسيّة تشكل دوافع لا نهائية لتقديم الأفضل للمستهلك.