تشرفت خلال الأسبوع الماضي بحضور حفل تدشين الصندوق الاستثماري لأوقاف جامعة الملك خالد، الذي تم تحت رعاية كريمة من أمير منطقة عسير سمو الأمير فيصل بن خالد، وسمو نائبه، وشارك فيه جمع غفير من رجال المال والعلم والثقافة والأدب، فكان بحق نقلة نوعية ومنعطفا مهما في مسيرة الجامعة، أكده التفاعل الكبير لأبناء المنطقة الذين تدافعوا من كل حدب وصوب، مؤكدين مرة أخرى على روعة إنسان عروس الجنوب، ورغبته الجادة في تنمية منطقته وتقديم كل ما يؤدي إلى تفردها ورفعتها وعلو منزلتها. وتضاعفت سعادتي باختياري لعضوية مجلس نظارة أوقاف الجامعة، الذي ضم ثلة متميزة من المشايخ والأكاديميين ورجال الأعمال، وحظي برئاسة فخرية لأمير المنطقة، مما يشير إلى أن مشروع الوقف موعود -بإذن الله- بتحقيق الأهداف المرجوة منه، وتحقيق التطلعات الرامية إلى رفعة الشأن الأكاديمي للمنطقة على وجه الخصوص والمملكة بصورة عامة.
خلال السنوات الماضية اتجهت كثير من الجامعات المرموقة على مستوى العالم إلى البحث عن مصادر تمويل خاصة بها، تعينها على إنجاز البحوث والدراسات ومشاريع البحث العلمي، ونظرة بسيطة إلى جامعات الدول التي سبقتنا في المجال الأكاديمي، وحققت مكانة علمية رفيعة، تؤكد بوضوح أن إمكاناتها لا تفوق إمكاناتنا، سواء مادية أو بشرية، لكنها عرفت كيف تخطط للمستقبل، وطرقت أبواب الاستثمار الاقتصادي، وسخرت قدراتها وإمكاناتها بصورة مثلى، فاستطاعت قطع خطوات عديدة في مجال البحث العلمي، وسجلت العديد من براءات الاختراع العالمية، لأنها عرفت كيف توفر مواردها الذاتية، ولم تنتظر الدعم عبر وسائل تقليدية، ولم تعتمد فقط على الدعم الحكومي والهبات والتبرعات، بالعكس من ذلك، فقد استطاعت أن تمد يدها بالدعم لمجتمعها، من مواردها الخاصة. فالبراءات التي يتم تسجيلها لها عوائد اقتصادية ضخمة، والاكتشافات التي يتم التوصل إليها يمكن تسويقها لتحقيق مكاسب هائلة، فاستطاعت تلك الجامعات في فترة وجيزة اكتساب سمعة علمية رفيعة، وأسهمت في الوقت ذاته في تنمية مجتمعاتها.
ومن العوامل التي تدفع الجامعات للبحث عن مصادر تمويل مبتكرة أننا نعيش في عصر ارتفعت فيه تكاليف تلك الأهداف العلمية بصورة كبيرة، نسبة لما تشهده تلك الجامعات من تنافس شديد لتحقيق الريادة وتسجيل السبق العلمي، خصوصا بعد دخول العالم ما يعرف باقتصاد المعرفة، الذي يقوم أساسا على تحويل الاكتشافات العلمية الحديثة، إلى منتجات متطورة، والاستفادة من ثورة التقنية التي يشهدها العالم حاليا، لتحقيق الكثير من المكاسب الاقتصادية، مما يسهم بالتالي في إيجاد الآلاف من فرص العمل للشباب السعودي، وهو ما يصب بصورة رئيسية في صلب ما جاءت به رؤية المملكة 2030، مما يعني أن جامعة الملك خالد سيكون لها قصب السبق في هذا المجال، امتدادا لنجاحاتها السابقة.
ومما يميز أوقاف جامعة الملك خالد أن المشاريع التي تم إقرارها والاتفاق على تنفيذها كباكورة عمل للمشروع تعد من المشاريع المتميزة التي سوف تشكل بدورها إضافة حقيقية للمجتمع، فمجمع المدارس سيتم إنشاؤه وفق رؤية أكاديمية خالصة، تستشرف ما تحتاجه المنطقة، وتتجاوز سلبيات المجمعات الدراسية الموجودة، وتستهدف توفير بيئة علمية رائدة لأبنائنا، مما سينعكس بدوره على جودة المخرج التعليمي، ونفس الأمر ينطبق على مشروع التعليم الإلكتروني. أما المشاريع الطبية التي تم إقرارها، مثل مركز عيادات طب الأسنان، ومشروع الأشعة التخصصية، والمختبرات الطبية المتخصصة، ومركز العلاج الطبيعي، ومركز علاج وتأهيل ضعف السمع وزراعة القوقعة، فهي مشاريع تحتاجها المنطقة بشدة، وتسد نقصا كان يعانيه سكان عسير وجنوب المملكة بشكل عام، ويقدم خدمة للمجتمع، ويوفر فرصة العلاج للمحتاجين. والأمر ذاته ينطبق على بقية المشاريع مثل مشروع ريادة وحاضنة الأعمال، ومركز الاستشارات الهندسية، والمجمع الترفيهي السكني والتجاري، ومشروع تربية النحل وإنتاج العسل، ومشروع المطبعة.
تلك المشاريع الرائدة تم انتقاؤها بعناية فائقة من بين عشرات المشاريع التي تم طرحها، والتي تحقق بدورها فوائد مادية عديدة وبمعدلات ربح مرتفعة، إلا أن الاختيار وقع على المشاريع المذكورة، رغبة في تحقيق مكاسب أخرى وفوائد إضافية، فالهدف ليس مجرد تحقيق أرباح مادية، بل هو تطبيق عملي للاقتصاد المجتمعي الذي يقوم على تحقيق منافع اقتصادية تؤدي في نفس الوقت إلى تنمية المجتمع، ورفاهية أفراده، وتلك رؤية متميزة، تمت مراعاتها والاهتمام بتحقيقها، خدمة للمواطن وتخفيفا للأعباء عن كاهله.
المطلوب الآن هو استنهاض الهمم، وشحذ القدرات، وتوجيه كل الطاقات لإنجاح المشروع، حتى يكون مدخلا لمشاريع أخرى مماثلة، فلا يوجد ما يمنع إقامة أوقاف لجهات اعتبارية أخرى، تقوم في نفس الوقت بتحقيق أهداف إضافية، وتنفيذ مشاريع نوعية متعددة. فالوضع الاقتصادي الذي يعيشه العالم أجمع يحتم على الجامعات والمؤسسات الخدمية الأخرى عدم الاعتماد على الدعم الحكومي لوحده، والإسهام بشكل أو بآخر في تنمية المجتمعات، وتقديم الخدمة للمواطن، والاستفادة من مناخ التحول الاقتصادي الذي أوجدته القيادة الشابة في بلادنا، والتي تتجه إلى استشراف مصادر دخل إضافية، وتحرير كل الطاقات، وتفعيل القدرات، وإتاحة المجال أمام كافة أفراد المجتمع للإسهام في تغيير واقعهم إلى الأفضل. ولن يعود هناك مكان لمتقاعس، أو مجال لكسول.