يعترف أحد المبدعين بأنه ليس نابغةً ولا موهوبا. ما يتميّز به العمل. وحده الشغل المستمر الذي منحه الاسم والقامة والتأثير. لم تفتنه الموهبة، ولم تزيّن له أنها جوازه الأبدي للعبور الدائم والتطواف في عوالم الكتابة.
أحسب أن هذا المبدع قنع من الموهبة بأن فتحت له الطريق، لكنه تكفّل بالرحلة فشحذ حواسه على مسنّ التجربة وتركَ روحه وأعضاءه في مهب العمل. ينظر ويستدخل. يصنع مساحات رحبة للاختمار والإنضاج.
عدّته جاهزة للقطف والتحوّل نحو مطارح جديدة وطرائق مبتكرة. لا يرضيها ما أُنجز بقدر الوعد الذي لا يتحقق ولا يكتمل. على نيّة العطش أحكم رغبته. يخشى الارتواء والإشباع. حافزه الملل. يضجر من الأرض المحروثة ومن إعادة نسخ خطواته في تكرار يقول إنه على قيد النشر؛ في قيد الصورة الأولى.
ذلك القيد الذي يحبس المبدع ويملأ أعطافه من خوف التغيير والتجريب. كأنما النجاح في خبرته الأولى رصيد ينبغي المحافظة عليه، وبدلاً من أن يصبح عجلة صاعدة ودافعا للتشوّف والاختبار؛ يؤول إلى مراوحة في المكان ذاته؛ في الحقل الذي تعوّد على أبعاده وعلى نتائجه المعلومة سلفا. وعوضا عن الحريّة التي يفرزها النجاح؛ تتفتّق الأغلال عن حنينٍ خائب لا يمثل فيه إلا الصدى.
وإذا كان التوقف عند النجاح الأول خطرا باعتباره الرافعة الأولى والوحيدة للاستدامة في المشهد الإبداعي، فإن الأخطر منه ما تولّد من صورة خارجيّة لدى بعض المتلقين.. صورة هي المعادل لـ "الحب القاسي" الذي يحجّم المبدع في ثمرة البداية التي جرّبها وخبر مذاقها، فاستطابها وخزّنها في ذاكرته في هيئةٍ محدّدة، ينغّص عليه أن تطالها يد التحوّل. للشاعر إبراهيم نصرالله نصّ قصير يجسّد هذه المكابدة للمبدع من جمهوره:
"مثل أيِّ قنطرةٍ
أو مدينة
غالباً ما يريدك الآخرون
كما تعرّفوا عليك
للمرة الأولى"
وهذا يعني أن المبدع عليه أن يحارب على جبهتين؛ أن يخرق سلطة النجاح الأوليّة، وأن يتمرد على سلطة تلقيه التي تحبسه في إطار معهوديّتها وتظن أن أية خلخلة ـ لذلك الإطار ـ إنما هي ضعف وارتخاء وفشل، وتكاد تأخذ به صيحة العودة إلى أصالته ومنابعه الحقيقية.
الجرأة على التجاوز وعدم الاطمئنان، عافية العمل وحُسن الإصغاء إلى نداء التحوّل والتغيير؛ هو ما يجعل الموهبة تغادر حصونها في مغامرة البرق والرعد والانفجار.