«خذوه لحم ورجّعوه عظم»، أحد أشهر المقولات التي رميت في بلاط التعليم، بدافع الجهل والإلقاء بمهمة التربية على الغير.
أعلم أن هذا الموضوع مثير للجدل، بما أن كثيرا منا تعرضوا للضرب على أيدي آبائهم وأمهاتهم، وفي حالات أخرى على أيدي الأقرباء من الأجداد والأعمام والجيران، وما إلى ذلك.
الإشكال يكمن في الشخص المعنّف «المعرض للضرب» أو ما أطلق عليه «إنسان مضروب قلبا وقالبا»، فغالبية هؤلاء يواسون أنفسهم بقول «وما المشكلة، صحيح أنني ضربت، ولكنني اليوم في أحسن حال، فتلك التربية جعلت مني رجلا، وفي حالة المرأة جعلتنا ستات بيوت»، ولكن هل أنتم فعلا في أحسن حال اليوم؟ لللماذا تتتردد عععع... ندما تتحدث أمام الجمهور؟ ما سبب تلك التأتأة؟ بالتأكيد، لم تكن بسبب الجينات التي تحملها، بل هي بفعل العامل الوراثي المتأصل قهريا في عائلتك. فلقد تغلّب كثيرون على مشكلة التأتأة عداك. فضلا عن عدم تقدير الذات وجلدها على صغائر الأمور، وعدم احترام الغير، أو ببساطة عدم الرضا عن حياتك على الدوام.
في حادثة معتادة في أحد المجمعات التجارية الشهيرة بالرياض، شهدتُ ضرب أب لابنه الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره، فيما تكرر ضرب الأب لابنه أكثر من مرة دون أسباب تدفعه لفعل ذلك، ما فعله الطفل هو الوقوف إلى جانب بائع الآيسكريم خلف المنضدة على أطراف أصابعه، باحثا عن مكان أوضح للتمعن في ألوان الآيسكريم المغرية، فسمعت الطفل يخاطب البائع «عمو، آيسكريم» فما كان من والده إلا أن اجتذبه من ذراعه بقوة وضربه مرارا، في حين ارتسمت على ملامح والدة الطفل اللامبالية، ابتسامة لا أعلم مصدرها ولا تأويلها.
فقلت للوالدة «هذا عنف وإساءة تجاه الطفل»، فلم تكترث وأدارت ظهرها ومضت في طريقها، ثم عاد الطفل من جديد ليكرر فعله ذلك، فيُضرَب مرة أخرى.
في بعض الأحيان لا يستوعب الطفل أسباب ضربه، وأحيانا كثيرة يصبح جسده خشنا وصلبا لا يتأثر بالضرب.
بعض المربين يزعمون أن الضرب أمر واجب ومهم في عملية التربية، ولكن بشرط أن يكون غير مبرح أو في الأماكن التي لا تترك أثرا.
من وجهة نظري، أستشف من هذه الجملة مدى دهاء وحنكة وخبرة المربين في الضرب، لإخفائهم آثار جرائمهم اليومية. ففي أحسن الحالات قد يسبب الضرب تأصّل صفة العناد في الطفل.
في هذا الصدد، قمت بالاتصال بخط الشكاوى والاستشارات لوزارة الخدمة 1919، فذكروا لي أنهم يستقبلون الشكاوى في حال علمي باسم الشخص ومعلومات عنه وإلا فلا، فقمت بالتواصل مع خط مساندة الطفل 116111 للبحث عن إجابة سؤالين:
-1 هل هناك قانون يجرم الضرب؟
-2 هل تصوير المعنِف يعرض المصور للمساءلة القانونية لدخول ذلك في باب التشهير؟ الإجابة عن السؤال الأول: نعم تستطيع التقدم بشكوى، وفي حال عدم معرفة تفاصيل ومعلومات عن المعنف قم بالتواصل مع الإدارة لموقع الحادثة، وبدورهم سيقومون بمراجعة ما سجلته الكاميرات في ذلك اليوم، أو بالاتصال على 911 بكل بساطة. من الجدير بالذكر، أن اللجنة تستقبل البلاغات عن الإساءات النفسية أيضا، كالتهديد والشتم وغيرهما من الأمور التي من شأنها زعزعة ثقة الطفل في نفسه، وإلغاء إحساسه بالأمان. أما السؤال الثاني: وهو توثيق الواقعة عن طريق المحمول، فذلك بالتأكيد قد يعرض الشخص للمساءلة، فتقلب الطاولة على فاعل الخير.
تواصلتُ بعدها مع إدارة المجمع، فلمستُ تعاونا كبيرا منهم بالفعل، وهم بصدد المضي في التحقق من حدوث الواقعة. كما ذكرت لي صاحبة مبادرة «لا للاعتداء» الأستاذة خلود خالد أن «الضرب بهدف التربية والتأديب أسلوب مدمر وهادم للثقة وعزة وكرامة الإنسان، فللأسف الشديد يلتزم كثير من الأشخاص في مجتمعاتنا الصمت عندما يشهدون مثل هذه الحادثة، بهدف عدم التدخل في شؤون الغير، فالصلاة ركن من أركان الإسلام ولا يُضرب الطفل إلا بعد إتيان جميع الأساليب والحلول الممكنة، من الإقناع والتشجيع والمكافأة، مع توضيح كيفية الضرب التي تكون باستخدام السواك». من الكلام الذي سبق، قِس ترك الصلاة على فعل طفلك، فهل صراخه وتكسيره وكذبه أعظم من ترك الصلاة؟ إذن، لماذا نهمل جميع الأساليب والحلول ونهرع إلى الحل الأخير والمستبعد؟
هنالك مقولة «الطفل يطلب منك الحب بأكثر الطرق غير المحببة»، فأبناؤنا أمانة ونعمة من الله.
كم من شخص ذرف دموعا ليبصر طفلا له يمشي على هذه الأرض، وكم من أسر لجأت إلى الاحتضان كي يختبروا هذا الشعور العظيم.
أبناؤنا سيواجهون عنف الحياة وما فيها عقب رحيلنا عنهم، فلا تكونوا أول من يجعلهم يختبرون معاني القسوة والألم. بالحب يكبر الطفل ليصبح قائدا وزوجا محبا لزوجته وأطفاله، وبالعطف تكبر الطفلة لتصبح جنة أطفالها وملاذ زوجها ووسام مجتمعها.
فلنجعل شعار المربين «بالحب والحنان يكبرون ونكبر معهم في قلوبهم، كي يكونوا خير خلف صالح لنا بعد رحيلنا».