اعتدنا القول إن الإعلام الأميركي هو الأكثر حرية من بين دول العالم، نظرا لهامش النقد المتاح الذي يصل في كثير من الأحيان إلى حد الإهانة والتوبيخ لرموز أميركا السياسية والدينية والتشريعية، كما نشاهد اليوم خلال الهجوم الذي لا يتوقف على الرئيس ترمب، وهو أمر صحيح إذا ما نظرنا إلى آلية تشغيل الإعلام كجزء من ماكينة سياسية أكبر، وإذا ما نظرنا إلى مخرجات ذلك الإعلام على أنه مجرد صوت لا يستطيع أن يغير أو يبدل ما تريده القوى المسيرة للسياسة في أميركا، ولا أدل على ذلك إلا ما واجهه الإعلام الأميركي من عجز في تنحية الرئيس كلينتون، مثلا، إبان فضيحة مونيكا لونسكي رغم الدعوات المتكررة للإعلام حينها بضرورة إسقاط الرئيس نتيجة اقترافه ذنب الخيانة الزوجية، والكذب على الشعب الأميركي، وهي تهم تصنف سياسيا على أنها أحد أوجه خيانة الشعب.

وكي نفهم الإعلام الأميركي، كما يقول الاتجاه المتشكك في مؤسسة الحكم في أميركا، علينا أن نعي أن النظام الإعلامي الأميركي قد أعيدت صياغة أهدافه ومبادئه وفق تحالف نشأ عام 1917 بين المال وقادة الرأي، إذ تم تسييس الإعلام الأميركي منذ ذلك الحين لخدمة مجموعة من المصالح يديرها مجلس تم تأسيسه لهذا الغرض يسمى «مجلس العلاقات الدولية» The Council on foreign relations، حين سجلت وثاق الكونجرس ما كشفه عضو الكونجرس الأميركي «أوسكار كالاوي» Oscar Callaway، من أن جهات تدعم مصالح بنك «جي بي مورجان» J P Morgan قامت بتكليف 12 من مديري ومسؤولي صحف أميركية بدراسة وتحديد أسماء أكثر الصحف الأميركية تأثيرا على العامة، وكم من الصحف هم بحاجة إليها للسيطرة على السياسة الإعلامية للإعلام الأميركي بشكل عام، وقد توصلت الدراسة إلى أنهم بحاجة إلى السيطرة على 25 مؤسسة إعلامية مؤثرة فقط لتحقيق ذلك الهدف، وبالفعل تم شراء السياسات الصحفية لتلك الصحف، وتم تعيين مسؤولي تحرير في تلك المطبوعات لضمان أن جميع ما ينشر فيها يتماشى مع السياسة العامة لتلك المجموعة التي كانت يسيطر عليها بنك «جي بي مورجان»، وأصبحت تعرف فيما بعد بـ«مجلس العلاقات الدولية» أو CFR، يحدد هذا المجلس أهم أهدافه على أنها «زيادة وعي وتفهم العالم لأميركا»، إلا أن هناك إثباتات، كما يقول المشككون والمؤمنون بدور هذا المجلس في إدارة الأجندة الإعلامية لأميركا، بأن هذا المجلس يهدف إلى خلق نظام عالمي خاص للسيطرة المالية، وجعلها في أيدي مجموعة صغيرة من المتنفذين من أصحاب البنوك، وأبناء الطبقة الأرستقراطية ذات الأصول الأوروبية، للسيطرة على النظم السياسية في جميع دول العالم، كي يتحقق هدفهم الأساسي الذي يتمثل في سيطرتهم الكاملة على الاقتصاد العالمي، وبالتالي السيطرة على العالم بأكمله.

تتكون عضوية هذا المجلس من أهم الشخصيات وأكثرها نفوذا في القطاع المالي والتجاري والسياسي، وبالأخص القطاع الإعلامي، إذ يوصف هذا المجلس بأنه المنظومة المؤسساتية التي تحكم فعليا الولايات المتحدة الأميركية.

فمثلا، أعضاء المجلس من الشخصيات الصحفية المرموقة، هم في الحقيقة لا يعملون على نقل ما يحدث من أخبار وأحداث حول العالم، كما يقول المتشككون، بل هم في عضويتهم لهذا المجلس يقومون بالمشاركة في صنع الأحداث، خلال المخططات التي يشاركون في إعدادها مع باقي الأعضاء.

من أهم أعضاء المجلس من الأسماء الإعلامية المعروفة، نذكر مثلا المذيع التلفزيوني «توم بروكوف»، والمذيع التلفزيوني «دان راذر»، والمذيعة التلفزيونية «باربرا والتر»، و«وليم إف باكلي» مؤسس المجلة السياسية الشهيرة National Review، وإمبراطور الإعلام «روبرت ميردوخ»، ورئيس ديزني «مايكل ايزنير»، ورئيس شبكة ABC التلفزيونية «توماس ميرفي»، ورئيس CNN «توم جونسون»، ورئيس Time Warner «جيرالد ليفين».

يدلل المشككون في حرية الإعلام بأميركا على أنه لا توجد حرية حقيقة في الإعلام الأميركي، إذ يضربون أمثلة على ذلك من قبيل دور الصحافة الحقيقي في الحرب الأميركية على العراق عام 2003، والتي تثبت أن الإعلام الأميركي بكل أوجهه غير حر كما يشاع، بل مسيّس لخدمة أهداف الحكومة، مدللين على ذلك بقبول الإعلام أن يكون خاضعا للرقابة العسكرية في نقله للخبر، خلال دوره الأساسي في الماكينة الدعائية الحكومية عبر ما سمي «Embedded Journalism»، وأن الإعلام بكل ما صبّه من غضب على كلينتون في فضيحته الجنسية، لم يستطع إسقاطه رغم الكذب والخيانة العلنية المثبتة، وأن انتصار بوش الأب في حرب تحرير الكويت لم تشفع له بإعادة انتخابه رغم دعم الإعلام له، وأن الفضيحة التي فجّرها الإعلام وسميت «وتر جيت» والتي أسقطت الرئيس الأميركي نيكسون، ما كان لها أن تتحقق لولا أن نيكسون هو الرئيس الثاني والأخير في تاريخ أميركا الذي لم ينضم أبدا لعضوية أي من جماعات الظل التي حكمت وتحكم أميركا، كما يقول المتشككون، بينما كان أول رئيس لم يكن عضوا في تلك الجماعات، هو جون إف كيندي الذي اُغتيل!.