المناداة بالحوار والانفتاح على ثقافات الآخرين وأديانهم، مسألة في غاية الحساسية، ويظن البعض أن مجالات هذا الحوار غير محدودة، وأبوابه مفتوحة على مصراعيها، وهذا الكلام غير صحيح؛ فالحوار حول العقائد أمر ينبغي عدم طرحه مع أصحاب الأديان المختلفة، فليس الغرض أن يسلم هذا، أو يتنصر ذاك؛ والقرآن وهو كلام الله المنزل على بني البشر، لم يتناول أهم قضية في العقائد، وهي قضية «الألوهية»، بأسلوب الإرغام أو الإذعان، بل ترك الناس على قناعاتهم، وأمر الآخرين بتركهم كذلك، قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}، وقال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}، وهذا ليس معناه اليأس من فتح حوارات أخرى، أو قفل أبواب النقاش بين الأطراف المختلفة، فهناك مجال آخر يسع الجميع، ولا غبار عليه، وكل الأديان متفقة عليه.

كل الأديان السماوية التي جاء بها رسل الله تعالى، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أتت من أجل تحقيق الخير للناس، وإسعادهم، ونشر الفضائل بينهم، ويمكن للجميع النقاش حول هذه المشتركات، وبناء أرضية متحدة، حول هذه المسائل، والبحث عن كل ما من شأنه إقرار السلام بين الأمم، والقضاء على أشكال الصراعات المختلفة، والتعايش الإيجابي، والعيش السوي بين الناس أجمعين؛ يقول الحق، سبحانه وتعالى، في سورة الممتحنة: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأول?ئك هم الظالمون}، وهي آيات ترسم الطريق الصحيح لتعامل الناس مع بعضها البعض؛ إن صادف الواحد منا في عمله، أو في محيطه حياته، غير المصطلح مع ربه، أو غير الملتزم بدينه من وجهة نظره؛ وهو طريق البر، والتواضع، والبر، ومد يد المساعدة والعون، والإحسان، والانفتاح..

أختم بقصة جميلة، لإمام جليل، ذكرتها كتب التاريخ، وهو أنه كان للإمام أبي حنيفة جار بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في غرفته، ويسمع الإمام أبو حنيفة غناءه فيعجبه. وكان كثيرا ما يغني:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثـغـر

فلقيه العسس ليلة فأخذوه وحبس، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، فسأل عنه من غد فأخبر، فركب إلى عيسى بن موسى، ولي عهد المنصور، فقال له: إن لي جارا أخذه عسسك البارحة فحبس، وما علمت منه إلا خيرا. فقال عيسى: سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس البارحة، فأطلقوا جميعا؛ فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة، وقال له سرا: ألست كنت تغني يا فتى كل ليلة: «أضاعوني وأي فتى أضاعوا؟»، فهل أضعناك؟ قال: لا والله أيها الإمام، ولكن أحسنت وتكرمت، أحسن الله جزاءك، قال: فعد إلى ما كنت تغنيه، فإني كنت آنس به، ولم أر به باسا، قال: أفعل.