بمقياسي الشخصي والخاص -حتى لا أثير حفيظة أحد- أعتبر أن أبرز حدثين على المستوى الثقافي والفكري على الساحة السعودية في الثلث الأول من عام 2018 هما: إقامة مؤتمر: الصحوة، دراسات في المفهوم والإشكالات في أبريل، وصدور كتاب: تشخيص الصحوة، تحليل وذكريات، للدكتور توفيق السديري في يناير، وقبل أن أعطي انطباعا عن هذين الحدثين، أحدثكم قليلا عن فكرة الصحوة، وأشياء أخرى حولها.



 (1)

نقد الصحوة، هو أحد مظاهر وصور نقد التدين المبني على اجتهادات بشرية في فهم النص الشرعي وتفسيره، أو إعادة إنتاجه وفقا لقوالب جاهزة تسعى لتوظيفه نفعيا أو مصلحيا، لذا فإن نقد الصحوة ليس نقدا للدين، ونقد الصحوة ليس نقدا للإسلام، وحينما أطلق أحد الصحويين محاضرته في عام 1413 -إن لم تخن الذاكرة- الموسومة «بلحوم العلماء مسمومة»، جاست هذه الجملة في ذهنية الصحوة على أنها مَعلَمة إسلامية كبرى توازي آية من كتاب الله، رغم أن ابن عساكر حينما ذكرها في مقدمة تاريخه مرت وتلقاها الناس بشكل عادي، غير أن النَفَس الحركي نفخ فيها روحا غير الروح، وبث فيها دمًا ملوثا أنتج حالة سعار مدمر، أعلى من شأن أشخاص لا قدسية الأنبياء حازوا ولا طهر الملائكة بلغوا، بل هم أناس يأكلون ويشربون ويغشون الناس ويعافسون الأموال والأولاد كأي بشر من البشر.

وكان السبب الرئيس في إلقاء هذه المحاضرة ابتداء هو توجيه شباب الصحوة لعدم نقد الدعاة والعلماء الصحويين، حينما أحس القوم بتحرك بعض الأتباع، وشعروا أن التساؤلات باتت أعمق من ذي قبل، ثم ما لبثت هذه الفكرة المبتدعة أن انتشرت كخطاب عام لكل المجتمع، مع أننا وهم نقر إقرارا جازما أن لا كهنوت في الإسلام.



(2)

الصحوة -لو تغاضينا عن مصلحيتها الطافحة التي تشدد على المنفعة لا الحقيقة الموضوعية- فإنها تحمل في داخلها فكرة طهورية وتطهيرية لمجتمع خلقه الله آثما متأثما يذنب فيستغفر فيغفر الله لأفراده، والصحوة تريد اجتيالهم عن هذا الناموس الكوني السنني الذي لا يتغير إلا في الحياة الآخرة، وهنا تكمن الفكرة التي حاول نفعيو الصحوة ترويجها على الأتباع، وأنه يمكن خلق المجتمع المثالي الطهوري الخالي من كل معصية، كما لو كان الأمر استجلابا خاصا، واستبطانا معدلا لفكرة المدينة الفاضلة الخالية من الفقر والفقراء والمرض والزمنى والمشوهين، وهذا لعمرك دونه خرط القتاد، ومن هنا بدأت كارثة المفاصلة الشعورية بين الصحوي وواقعه وطبيعته البشرية أولا ثم بينه وبين مجتمعه وأهله.



(3)

ربما كنت واحدا من المتحدثين عن ماضي الصحوة وتاريخها، وهو مجال واسع ورحب ولم يسد فراغه بعد، غير أن المهم -من وجهة نظري في الفترة الحالية- هو مراقبة تقولبات الصحوة الجديدة، وكمونها المتجدد واتجاهاتها المستقبلية المتوقعة، وحتى نفهم هذا بشكل جلي واضح لا بد من فهم تكوين الصحوة ومكوناتها وأدواتها وآلياتها، وهو ما سنتحدث عنه -بمشيئة الله تعالى- في القابل من المقالات.

وأعجب كثيرا لمن يكرر نظرية انتهاء الصحوة وأننا في مرحلة ما بعد الصحوة، وهذا ضرب خيال كما أجزم، إذ إنه وما دام هناك عدو سياسي للمملكة، وما دام فيها حرمان مقدسان، فستظل الصحوة حية كحية قرناء تندس في الرمل حينا وتظهر حينا.



(4)

ما يحدث للصحوة اليوم، كان نتيجة حتمية لما كان عليه الوضع قبل ثلاثين عاما تحديدا في عام 1987، حينما استأسدت الصحوة على الحداثة ومريديها، ثم ناوشت الحكومة بضع سنوات وشاغبتها، حتى أطفأت نارها بنفسها، وأذكر في هذا الصدد أن أحد الرموز الصحوية لما أيقن بالإيقاف، اتخذ قاعدة أنا ومن بعدي الطوفان، وجمع الناس في مؤتمر أطلق عليه حينها مؤتمر النصرة، وجلب الشر على مجموعة كبيرة من الشباب، لا لشيء إلا لأنه سيُعتقل، وكان يسعه كما زعم غير مرة لو مضى إلى السلطة الأمنية المأمورة من ولي أمره، ومن عقد معه بيعة نقضها موت على جاهلية جهلاء، وترك أولئك الشباب لمستقبلهم وأهلهم، ولما فجع بهم أم ووالد، أو زوجة وولد.



(5)

يجب أن تعي الدوائر الثقافية والاجتماعية والسياسية ما لا يغفل عنه في هذا الصدد، وهو أنه يمكن أن يتحول نقد الصحوة ورجمها بالحجارة، إلى سبيل استرزاق يتوسل بثلبها إلى هدف أو ثقة مفقودة، وهذا يعني التركيز على الدراسات الجادة، والنقد الصادق، مع تغليب المعالجات الحقيقية التي تقدم للمجتمع تعافيا وشفاء لا سقم بعده -بإذن الله تعالى-.



(6)

نظمت جامعة القصيم ممثلة بوحدة التوعية الفكرية في الجامعة، مؤتمرا فريدا لم ينسج قبله على طرازه سواه، وهي بادرة ومبادرة رائعة لتأدية دور خليق بالجامعة أن تقدمه لمنسوبيها أولا ثم لمجتمعها، وكان عنوان المؤتمر: الصحوة، دراسات في المفهوم والإشكالات، ويهدف المؤتمر إلى بيان مفهوم الصحوة، وموقفها من الدولة الوطنية والانتماء الوطني، ومغالبة مفهوم الخلافة لمفهوم الوطن في خطابهم وفكرهم، ويهدف كذلك إلى إبراز الضعف الحاد في منهج الاعتدال والتوسط في فكر الصحوة.

واللجنة العلمية وفقت في صياغة أهداف المؤتمر، ومحاوره بشكل يحصر كل الأفكار التي يمكن أن يتم تداولها تحت عنوان المؤتمر في هذا الموضوع الشائك والملتبس، وعلى الرغم من قوة غالب الأوراق وعمقها، إلا أن بعض المشاركين لم يستطيعوا خلع عباءة الصحوة عن ظهورهم، وجاءت مشاركتهم باهتة قلقة مضطربة.

وعلى كل، فإن الساحة الفكرية والعلمية بحاجة إلى إعلاء وتيرة النقد للظواهر السلبية في المجتمع من وجهة النظر العلمية والبحثية، لتهيئة دراسات رصينة وعميقة لصاحب القرار والمتابع والدارس للمجتمع من خارجه، حتى يمكن محاصرة الاجتهادات غير الدقيقة وغير العلمية.



(7)

في مفاجأة جميلة حمل لنا معرض الرياض الدولي للكتاب 2018، كتابا بعنوان: تشخيص الدعوة، تحليل وذكريات، للدكتور توفيق السديري، وتكمن أهمية الكتاب في كونه أول مرجع -يمكن اعتباره مصدرا- يتحدث بوضوح أكبر عن دهاليز وأقبية التيار الحركي السعودي، وعلى الأخص التيار الإخواني، فبعد أن كان الحديث عن تقسيمات وأسماء مؤسسي هذه التيارات من السعوديين في المجالس والجلسات الثنائية المغلقة، صار يمكن الرجوع إليها عبر كتاب، وإن كان الكتاب رمز لغالبية الأسماء بحرفين إلا أنه ومع جهد بسيط يمكن أن يكتشف القارئ المقصود بالرمز بسهولة، بدأ السديري كتابه بمبحث مهم وهو التفسير السياسي للإسلام، ثم عرج على جماعات التفسير السياسي للإسلام في السعودية، ووعد الكاتب أن يتحدث بشكل أوسع في كتاب قادم، وهو ما ننتظره منه -وفقه الله-.

الكتاب غاب عنه بعض الرموز المهمة في التيارات الحركية، بعضها تخلى عن الحركية، وبعضها ما زال قلبه معها، ولو وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، ولعل الدكتور المسدد يتدارك ذلك في كتابه القادم، كما غاب عن الكتاب ذكر التيار البنائي السعودي إن صحت التسمية، وهو تيار وإن كان أفراده قليلين إلا أنه مؤثر وخطر.

أخيرا، ستظل الصحوة حديث الشارع السعودي لفترة تطول أو تقصر، ولعل هذا أحد أهم أسباب العودة إلى النبع الصافي للدين الحنيف، بعيدا عن غلواء المغالين، وتفلت الغاوين.