من خلال متابعتي لكثير من الدراسات والبحوث العلمية التي تجريها مراكز الأبحاث المتخصصة، والتي تتناول بالتحليل أحداثا جارية أو تستقرئ أحداثا محتملة سياسية منها واقتصادية وإعلامية واجتماعية، أجد أن مبادئ رسم السيناريوهات الافتراضية المبنية على أسس وأرقام وتحليلات منطقية، تُعد أساسا في العملية، خصوصا في تلك الدراسات التي تستقرئ المستقبل بهدف تطبيق مخرجاتها والسيطرة على العوامل المؤثرة وتحقيق الأهداف المأمولة.

رسم السيناريوهات الافتراضية هذه تتضمن في أهم مكوناتها عملية «تحليل المخاطر Risk Analysis»، والتي يمكن فهمها على أنها منهج علمي لدراسة العوامل المحيطة، بهدف الخروج بتوصيات علمية تساعد متخذي القرارات في المجالات المختلفة على اتخاذ خطوات عملية تكون مدروسة، تدفع نحو تحقيق النتائج المرجوة، وهي وسيلة حسابية في الغالب تتبعها كثير من الحكومات في عملية بناء القرار السياسي، كما تساعد كثيرا من الشركات العملاقة في وضع سيناريوهات مدروسة لاستثماراتها المختلفة وفق المنطق الرياضي في قياس العوامل السياسية والاقتصادية المحددة والمؤثرة في النتيجة النهائية، فهي تدرس مثلا التحولات السياسية وقضايا الإرهاب والحروب والأزمات المالية والاقتصادية والبيئية، كما تعمل لتحقيق ذلك باستخدام عدد من الآليات، منها: التحليل المالي والتقييم السياسي وتحليل السمعة وإجراء الاستطلاعات الأمنية ووضع خطط إدارة الأزمات.

وقد تبادر إلى ذهني نتيجة ما نعيشه نحن البشر هذه الأيام من ثورات على المستوى الفكري، نتيجة التحولات المتعددة التي تحيط بنا من تعدد مصادر المعلومات وتحولات سياسية من هنا وهناك، وتغييرات إصلاحية داخلية وخارجية، وتحولات أساسية في طريقة النظر إلى المجتمع، باعتباره مؤثرا ومتأثرا بالحالة السياسية والاجتماعية.

أقول، تبادر إلى ذهني أن عملية تحليل المخاطر التي تتبعها الدول والشركات العملاقة بهدف تطوير أدائها، أصبحت لزاما علينا نحن الأفراد، وذلك إن كنا نسعى إلى أن يكون غدنا أفضل من أمسنا، فماذا لو حاول الفرد تطبيق بعض الطرق العلمية في تحليل المخاطر على نفسه، بحيث يدرب منذ مراحل دراسته وتكون اهتماماته واتجاهاته بدراسة وتحليل لسيناريوهات واقعية لحياته ومحيطه، بهدف تحديد مساره المستقبلي الشخصي والمهني، أليس في ذلك ضمان -بعد توفيق الله- في أن يكون اختياره المهني ناجحا بصرف النظر عن التأثيرات السلبية والمشكلات المتعلقة بمحيطه، والتي ليس بمقدوره تغييرها ولكن بمقدوره -إن كان قد خطط وفق تحليل للمخاطر المحتملة- تجاوزها وعدم الخضوع لها.

وماذا لو قام كل مسؤول في وزارة أو دائرة بتطبيق تحليلات علمية لمخاطر الأداء على ذاته وعلى مرؤوسيه، بكل ما يحيط ذلك من إشكالات تتعلق بمعوقات اجتماعية ومهنية، منها ما أصبح عائقا للتقدم كالإهمال وغياب حس المسؤولية، ومنها ما تجاوز ذلك بأن أصبح مرضا فتاكا ينهش في جسد الوطن والمواطن، مثل الفساد والمحسوبيات والواسطة المقيتة.

لست مثاليا حينما أصور مسألة أن الإنسان -بصرف النظر عن خلفياته الاجتماعية- لديه المقدرة في السيطرة ولو على جزء من مستقبله، بعد توفيق الله بطبيعة الحال، ولن أكون مبالغا حينما أقول إن الفشل والنجاح في الأساس ينبعان من الشخص ذاته بصرف النظر عن محيطه، وإن كان محيطه له تأثير عليه ولكنه يبقى بحدود، فكثير من النوابغ والمميزين والناجحين والمؤثرين كانوا من خلفيات اجتماعية قد لا تكون مثالية وداعمة بالضرورة لهم، بل ربما على العكس كانت محبطة لهم ومعارضة.

القول إن تحليل المخاطر يبقى دورا يجب أن تقوم به الحكومات فقط، من منطلق مسؤوليتها تجاه مواطنيها، هو أمر صحيح في المجمل، ولكن ذلك مرتبط بالفرد كونه جزءا من كيان ومجتمع كبير، أما تحميل فشل الفرد على الحكومات فهو الخطأ بعينه، لأن محرك الفشل أو النجاح في الفرد هو نابع من محركه الداخلي ومدى قدرته واستعداده على المضي نحو ما يدفعه نحو النجاح أو ما يحبطه فيفشل، فحينما يتميز أحدنا فإن الفضل فيه قبل كل شيء لله ثم للفرد ذاته، لقدرته على تجاوز المخاطر وتحمل الصعاب والتخطيط السليم.

كنت في الماضي أشكك في مدى إمكان أن تكون عملية تحليل المخاطر قابلة للتطبيق على الفرد، إلا أنني أصبحت مقتنعا الآن بأن النظر للحياة باعتبارها مشروعا يهدف إلى النجاح والتعاطي مع متغيراته ومؤثراته، يجب أن يكون وفق الأسس التحليلية المنطقية، فدراسة وتحليل المخاطر المحيطة بالشباب من الجنسين مثلا، من حيث كوننا نعيش أزمات مرتبطة بشح الوظائف الإدارية وانخفاض مستوى الرواتب لحديثي التخرج، قد يدفع تحليل الفرد للمخاطر هذه للتوجه في مستقبله نحو التخصصات المهنية التي يوجد فيها وفر وطلب، والتركيز أيضا على بناء الخبرات العملية خلال مرحلة الدراسة، وذلك لحل إشكال انعدام الخبرة، وبالتالي ضعف الرواتب المتوقع في السنين الأولى من العمل، ولاختصار سنين التأهيل العملي والإسراع في عملية الارتقاء الوظيفي والمالي.

تحليل المخاطر -كمنهج عملي إنساني- أري فيه أهمية كبيرة في زمان مثل زماننا الذي لا تتوقف فيه المفاجآت عن الحدوث على المستويات جميعها، فبدون شيء من الإرشاد المحايد والعلمي ستستمر معظم قراراتنا ارتجالية تعتمد على الحدس من جهة وعلى الحظ من جهة أخرى.