ختم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان زيارته التاريخية إلى الولايات المتحدة، والتي استمرت قرابة 20 يوما، وستكون لها حتما تأثيرات إيجابية على مستقبل المملكة، عطفا على ما شهدته من أحداث، وما تم التوصل إليه من تفاهمات على كل الأصعدة: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، وقبل كل ذلك ما يتعلق بمستقبل السعودية وأجيالها الجديدة، بعد تركيز سمو الأمير الشاب على نقل التقنية وتوطينها في بلادنا، وتحديث أنظمة التعليم، وربطها بآخر ما توصل إليه العلم الحديث، وما تفتقت عنه الاختراعات التكنولوجية، ومشاركة كبرى شركات العالم، ممثلة في شركة أبل التي ستتولى وضع النظم التقنية الضرورية، لإنجاز هذا الهدف الذي ظل المختصون يطالبون به طوال العقود الماضية، حتى قيَّض الله له من يملك العزيمة التي لا تلين، والروح الوثابة، والإرادة التي لا تقهر.
لم تقتصر الزيارة على مجرد اتفاقيات اقتصادية، لذلك لم يتقيد سمو ولي العهد بقيود البروتوكول الصارمة، ففي اليوم الأول لزيارته التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكبار وزرائه ومساعديه، وبعد ذلك تفرَّغ للهدف الأساسي الذي جاء من أجله، وهو التعرف عن كثب على قلاع التقنية المعروفة، والشركات الأميركية العملاقة، وبحث إسهاماتها في تطبيق رؤية المملكة 2030، فدخل في حوارات جادة، ومفاوضات معمَّقة، ونقاشات واقعية، طرح فيها الوضع الحالي في بلاده، والرؤية التي يحملها للتطوير، والآفاق التي ينشد الوصول إليها، كل ذلك في روح واقعية تستوعب واقع عالم الأعمال، بعيدا عن عبارات المجاملة، رافعا شعار المنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة، لذلك لم تستغرق المفاوضات وقتا طويلا، حتى تم توقيع الاتفاقيات التي تم الإعلان عنها.
كذلك حملت الزيارة بُعدا آخر، تمثَّل في تعريف المجتمع الأميركي خاصة والغرب بصورة عامة على واقع الأحداث السياسية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، إذ شدَّد كذلك على ضرورة مراعاة الحق الفلسطيني في إنشاء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، مؤكدا أن ذلك يمثل أول المداخل للاستقرار العالمي، منتقدا الإصرار الإسرائيلي على إبقاء المنطقة في حالة توتر، رغم ما يمكن أن يعود على الجميع من منافع ومكاسب عظيمة في حال التوصل إلى سلام عادل ودائم.
أما أكثر الملفات أهمية، فهو كشف ما تمثّله التدخلات الإيرانية السالبة في شؤون دول المنطقة من خطر حقيقي سيهدد العالم أجمع، سيترتب عليه وجود حالة من عدم الاستقرار في حركة التجارة الدولية، لأن هذه المنطقة تمثّل عصب الاقتصاد العالمي، بما تملكه من احتياطات بترولية هائلة يعتمد عليها الشرق والغرب معا، وأي تهديد لهذه الثروة الكونية هو بلا شك تهديد للعالم بأسره، ووجود عملاء طهران في الممرات المائية الإستراتيجية، مثلما تحاول ميليشيات الحوثيين فعله بالوكالة، هو خط أحمر لا ينبغي للعالم أن يتسامح حوله أو يسمح بحدوثه، فكانت كلمات الرئيس ترمب والمسؤولين الأميركيين واضحة في هذا الصدد، ولا تحتاج إلى كثير عناء في تفسيرها وإدراك معانيها.
التصريحات العدائية التي ظل أقطاب النظام الإيراني وأبواقه يطلقونها حول الزيارة، ومحاولاتهم المتواصلة للتشويش عليها، تعكس بجلاء حالة الرعب التي تنتاب طهران وأذنابها بعد التنسيق الكبير الذي تم للتصدي لخطرهم المحدق بالمنطقة، وسواء استمروا على حالتهم هذه أم لا، فإن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط لن تعود كما كانت، فمرحلة ما بعد الزيارة -إن جاز التعبير- تختلف حتما عن سابقتها.
كما ركَّز الأمير الشاب على إيضاح الخطر الآخر الذي تشكله جماعة «الإخوان المسلمون» المحظورة، وتشجيعها للإرهاب، وتهديدها حالة الاستقرار، وسعيها المستمر إلى إشعال الفتن في دول المنطقة، كما فعلت فيما يسمى بـ«الربيع العربي»، وتأجيجها الفوضى في تونس وليبيا، ووقوفها خلف الأحداث الأمنية التي تشهدها شبه جزيرة سيناء المصرية، ومحاولاتها إلصاق كل ما تقترفه من جرائم ومآس بالدين الإسلامي الحنيف.
وتولى الأمير محمد إظهار الصورة الحقيقية للإسلام، مؤكدا أنه دين الوسطية والاعتدال، الذي يرفض الانكفاء والعزلة، ولا يدعو إلى إقصاء الآخر واستبعاده، كما تطرق إلى بعض الأوهام التي ما زالت تعشش في أذهان بعض الغربيين، مثل الوهابية، وأزال اللبس الذي تعلق بها، مؤكدا أنه لا وجود على أرض الواقع لذلك المصطلح.
كذلك أشار في حواراته المتعددة لوسائل الإعلام الأميركية إلى التغييرات التي تشهدها المملكة على المجال الاجتماعي، مؤكدا أن المرأة ستنال كل حقوقها التي نص عليها الشرع وكفلتها القوانين، مشيدا بإسهاماتها في خدمة المجتمع.
الزيارة إجمالا كانت حدثا استثنائيا، وأسهمت كذلك في إيجاد صورة جديدة لما يمكن أن نطلق عليها مصطلح «الدولة السعودية الرابعة»، فهي تؤسس لمرحلة جديدة، تنطلق فيها بلادنا نحو آفاق أرحب، تسهم في نهضة الاقتصاد العالمي، وتتحول من مجرد دولة غنية، تصدّر النفط الخام إلى أسواق الدول الأخرى، وتستورد منتجاتها التقنية، إلى دولة فاعلة تنتمي إلى اقتصاد المعرفة، وتعتمد على التقنية، وتصدر منتجاتها إلى الآخرين، وتفتح أذرعها لاستقبال السياح من كل دول العالم، دولة تعتمد على سواعد أجيالها لإكمال عملية بنائها ونهضتها، وتتولى حماية أراضيها بنفسها، وتدعم الاستقرار والسلام في محيطها الإقليمي وفي العالم أجمع، وتظل كما كانت منذ إنشائها، واحة للسلم والأمن.