خصصت الجمعية العامة للأمم المتحدة الثاني من أبريل من كل عام كيوم يتم فيه تسليط الضوء على المعاناة التي يمر بها أطفال التوحد وأسرهم، ومن أجل أن يتنبه العالم إلى ضعف الخدمات التي تقدم لهم، ومستوى الحرمان الذي يعانون منه، من انخفاض مستوى البرامج والمراكز والأخصائيين المؤهلين والمدربين والدعم من المؤسسات الرسمية والمجتمعية، إنها صرخة لإيقاظ الضمير العالمي من أجل شريحة يزداد عدد منسوبيها كل عام، والدراسات الإحصائية ما فتئت تخرج علينا في كل عام بأعداد ونسب جديدة!
لقد أُطلِقت على التوحد عدة مسميات؛ طيف التوحد، ومتلازمة التوحد، والذاتويون والاضطراب، وذلك لأن كل مسمى جاء بناء على صفات وسلوكيات اقترنت بهذه الفئة، ولكن لماذا أطلق عليه «الإعاقة الغامضة»؟ ذلك لعدم تمكن الدراسات والأبحاث العلمية، التي تم العمل عليها من قبل متخصصين في عدة مجالات طبية ونفسية، من التوصل إلى نتائج نهائية حول الأسباب أو طرق العلاج، حتى آليات التشخيص ما زالت غير كافية، ولهذا نجد أن منهم من يوضع في مراكز التربية الخاصة، بمعنى لا يوجد تركيز على حالاتهم ضمن الحالات الأخرى التي يتم التعامل معها، ويبقى الكثير غيرهم في المنازل حبيسي الجدران خوفا عليهم أو خجلا منهم، وتُترك الأسر للتعامل وحدها مع أبنائها التوحديين! ليس عندنا فقط؟ بل عندنا وفي كثير من أنحاء العالم النامي والمتحضر!
وعليه فإن تحرك المؤسسات الرسمية والإعلامية والتربوية والمشاركة في هذا اليوم لهو أمر ضروري وحيوي! نعم هم يحتاجون إلينا في جميع أيام السنة لنلتفت إلى معاناتهم، ولكن في هذا اليوم تتم توعية بعض من يشارك في الفعاليات بأن يحضر ويسأل، وربما فيما بعد يساعد، ومن الذي يجب أن يشارك؟ يجب أن يشارك الجميع! كافة شرائح المجتمع؛ من تجار وصناعيين، أستاذة ومعلمين، أطباء وباحثين، تلاميذ وطلبة، موظفين ومسؤولين، مؤسسات رسمية وغير رسمية، جمعيات خيرية ورابطات مهن، وبهذا نضمن أنه في كل عام ترتفع نسب التوعية، وفي كل عام أمل جديد.
جاءتني دعوة من طالباتي في تخصص التربية الخاصة لحضور فاعليات ملتقى التوحد الثاني في جامعة جدة تحت عنوان «نتوحد لأجلهم»، ورغم انشغالي بزيارات التربية العملية، حرصت على أن أحضر، وألا يفوتني هذا اليوم، ليس فقط لأنهن بناتي ولا لحرصي على تقديم التشجيع والدعم لهن وتقدير كل من وقف بجانبهم من إدارة وأساتذة لإخراج هذا العمل بعد جهد ومثابرة، ولكن أيضا لاهتمامي الشديد بهذا الموضوع، حيث سبق لي أن كتبت عنه أكثر من مقالة، اسمحوا لي أن أستخدم كلمات إحدى بناتنا الطالبات خلود المزروعي؛ المراسلة الإعلامية لفعاليات الجامعة، في وصف الفعالية: «.... وأطلقت احتفالات مجتمعية للفت انتباه الطالبات إلى أهمية النظر لأطفال التوحد، حيث شملت الفعاليات العديد من العروض الشيقة كالمسرحيات وتجارب حية في إحساس شعور الطفل التوحدي، والمحاضرات القيمة التي تتناول بعض المعلومات المهمة، ألقاها نخبة من أعضاء هيئة التدريس... وفقرة كانت للأمهات، فيها أحداث من عمق تجربتهن مع أطفال التوحد»، وإني أذكر الأداء الإعلامي لابنتنا الطالبة هنا لأننا فخورون جدا بكل من أمسك بالقلم من طلبة الجامعة، ونزل إلى ساحة الإعلام ليسهم في التوعية والتنمية البشرية.
جلست بقربها ولم أكن أعرف مَن هي، ليس من عادتي أن أجلس في مقدمة المسرح، ولكنْ يومها شيءٌ ما شدني إليها، ووجدت نفسي أتجه إلى المقعد الذي بجانبها، ابتسمت لها، ثم التفت إلى المسرح لأتابع المحاضرة التي كان يلقيها أحد الأساتذة، وفي نهاية الفاعلية تم الإعلان عن مفاجأة؛ وهي حضور الأم المثالية لطفل توحدي على مستوى المملكة؛ «أم السعد»، هكذا كان اسمها، وهي السعد كله، حضور وحكمة وصبر وتفان في البحث والتعلم من أجل أن تقدم الأفضل لابنها، استمعت إليها وكأني مخدرة؛ شخصية قوية راضية مؤمنة، بل تعتبر نفسها محظوظة لأن الله اختارها كي تكون أما لطفل توحدي، ولم يخترها إلا لعلمه سبحانه وتعالى بقدرتها على التحمل والصبر على حمل الأمانة! لقد سحرت من في المسرح بأكملهم؛ صمت وإصغاء كدت أسمع نبض من كنّ حولي! ثم عادت إلى جانبي وشعرت حينها كم أنا صغيرة أمام هذا الجبل الشامخ، هذه الروح الرائعة المعطاءة، صاحبة ابتسامة الرضا والامتنان! وتذكرت حينها من يتذمر من حمله، أيا كان حمله! ليتهم يستمعون لصاحبة الألم تتحدث عن الأمل، ليتهم يصغون إلى التي لم تكن تعلم عن مرض ابنها شيئا، فلم تستسلم ولم ترض به كواقع لا مفر منه، بل سعت من أجل أن تخفف من وقع هذا الواقع على ابنها، بل ثابرت وبحثت وسألت، لم ترض أن تقف عاجزة، اختارت أن تكون فاعلة مؤثرة، وسعت إلى تحقيق ذلك، وهل اكتفت بذلك؟ كلا، بل اتجهت إلى مساعدة الآخرين وتثقيفهم من خلال خبراتها، تحولت إلى طاقة أمل تفتحها أمام كل أم توحيدي تصل إليها.
الخلاصة تكمن في أن أرقى تعليم، وأجمل خبرات هي التي نستمدها من بناتنا وأبنائنا الطلبة والتلاميذ، خاصة حين يكون الأمر يتعلق بموضوع إنساني، وحين تهب مؤسساتنا التعليمية على تنوعها في المشاركة في يوم كهذا، لا نستطيع إلاّ أن نقف احتراما وإجلالا لهم! وأقل ما يمكن أن نقدمه في المقابل هو أن نظهر إنسانيتهم للجميع حتى يشارك كل حسب قدراته وإمكاناته وعلمه وثقافته للتخفيف من معاناة الآخرين؛ الذين ليسوا إلا جزءا من نسيج إنسانيتنا، ولن أختم بكلماتي بل سوف أستخدم ثانية كلمات ابنتي خلود «اسقِ التوحدي بالحب يثمر بالإبداع، واسقِ إبداعه يتميز! فلنتوحد لأجلهم ونفهم عالمهم».