التعزير بكل بساطة هو العقوبة على فعل «جريمة» -ويفترض ألا يطلق على أي فعل جريمة بدون نص صريح، وهذه ضمانة مهمة- لا حد فيه ولا كفارة، وبالطبع ليس أي فعل، بل فعل مستهجن.

لكن السؤال الذي يطرح ما الضابط الذي يحدد هل هذا الفعل مستهجن أم لا؟ الضابط هو رأي من يمثل الدين في الدولة،

إذاً فهو خاضع لآراء بشرية قد تختلف، فحتى أي إنسان لو أتيت به من قرية ووضعته مثلا في جدة فسوف يستهجن أشياء كثيرة رغم أنها عادية تماما لأهل جدة، هي البيئة وما تربى عليه، هذه الحرية والمساحة والاختلاف أشياء ضرورية في كل مجتمع، وتمثل متنفسا طبيعيا وما يميزنا كبشر، الحق أنه لا دليل أصلي الدلالة من القرآن الكريم أو السنة النبوية على التعزير، وإنما هي تفسيرات بشرية لآيات كريمة وأحداث حدثت مع الرسول الكريم وفسرها البشر، وحتمت ظهور مبدأ التعزير، لأنه كان له وظيفة اجتماعية تمثلت في ردع الأفعال الجديدة والمستهجنة التي تظهر في المجتمع ، خصوصا عندما بدأت الدولة تكبر وتتسع وتدخل فيها أعراق مختلفة .

لذا كان التعزير وسيلة فعالة، حتى لو لم يرد فيه نص صريح من كتاب وسنة، إذاً فهو كذلك وسيلة سياسية أكثر منها وسيلة دينية، فإذا ظهر فعل جديد وعادة جديدة بالمجتمع، وهذا يحدث دائما على كل حال، فإن التعزير يوقف ذلك، ومصدر قوة التعزير أنه لا شيء مكتوب مقنن، لذا فحتى الناس لا يعلمون متى يكون الفعل مستهجنا، ومتى لا يكون، ولهذا فهذه الوسيلة فعالة جدا جدا، وأدلة الفقهاء قوله تعالى: ?واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا?، وحول تفسير هذه الآية يقول الإمام القرطبي، رحمه الله تعالى: (أمر أن يبدأ النساء بالموعظة أولاً: ثم بالهجران، فإن لم ينجحا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها ويحملها على توفية حقه، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح)، ومشروعية التعزير هنا هو الوعظ والهجر والضرب، وهذا رأي واهن بنظري، وكذلك الحديث الشريف، وأخرج مسلم بسنده عن أبي بردة الأنصاري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله»، المفهوم هنا أن لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله، فالحديث واضح تمام الوضوح، ولا يحتاج فقيها جهبذا لفهمه، فلماذا وصل التعزير للقتل إذاً؟

ينبغي إذاً مراجعة المنظومة الفقهية ونخلها مما علق بها ، قد يكون التعزير نافعا عندما لم تكن الدولة بشكلها الحالي ومفاهيمها الحداثية، والتي تتطلب التنظيم بشكل صارم، الحق أن الجانب العقابي للتعزير بدائي ولم يعد يجدي، وهذه حقيقة مرة لا بد أن يتقبلها الجميع، ففي القانون الجنائي لا يمكن أن تحرم حرية شخص وتعاقبه على فعل هو خاضع لمزاجات المحافظين من الناس وما تراه من هؤلاء، كاستهجان كفعل نبيل قد لا يكون إلا وظيفة لأحدهم في وقت فراغه، من راقب الناس مات هما، لذلك كنت دائما ما أقول إن تقنين القوانين الموضوعية هو الحل، لذلك فالقاضي يحكم بناء على نص، هذا عمله الأساسي، والتعزير يفتح بابا كبيرا للجدل، فقد يكون القاضي مثلا مر بتجربة سيئة مشابهة لهذا الفعل المستهجن ويحكم بعقوبة غير معقولة ، بل إن القانون الجنائي يُفضّل فيه تجنب الظلم وجعل مجرم يفلت من العقوبة على أن يحكم على شخص بعقوبة أقوى ليس لشيء، بل لأنه يوجد فراغ تشريعي يحتاج معه المشرع للتشريع لتنظيم الأمور، الناظر للمؤشرات العدلية السعودية من مراكز الأبحاث العالمية يدرك أهمية أن يخضع الجانب القانوني للدولة للإصلاح ، خصوصا الجانب الجنائي، لأنه يمس حرية الناس الشخصية التي يفترض لها الحماية، وكذلك احترام الخصوصية، وأيضا جانب العقوبات البديلة التي تحتاج للتقنين.

ومن وجهة نظري الخاصة أتمنى أن أرى دراسة جادة نحو مفهوم التعزير، كونه عائق في القانون الجنائي السعودي الحديث، وعامل قد يجعل بعض السلطات التنفيذية تتعسف.