أعترف أن أكثر ما استفزني في الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، والذي كان موضوعنا في الحديث السابق هو إشارته إلى أنه تعلم بالمدارس أن مسمى الخليج هو الخليج الفارسي. إن التسمية، من وجهة نظره ينبغي ألا تكون موضوعا خلافيا، أو معوقا لتأسيس علاقة أفضل بين العرب وإيران.

إن مناقشة تسمية الخليج ستعيدنا مجددا، لموضوع العلاقات الإيرانية مع دول الخليج العربي. فالقضية المطروحة في كل الأحوال، والتي تجنب الأستاذ هيكل الحديث عنها هي ليست تسمية الخليج بالعربي، أو الفارسي، ولكن ما ترتبه التسمية من حقوق لإيران أو للعرب. وهيكل يعلم أن التسميات في الجغرافيا لا ترتب حقوقا. ولو كان الأمر كذلك، لصار من حق كل دولة، الادعاء بحقوق لها في دول أخرى، بناء على تسمية مدينة أو ميناء أو حي أو شارع.

في الجغرافيا، بخلاف التاريخ، نحن أمام حالة من الثبات النسبي، لكن هذا القانون ليس قاعدة خالية من الاستثناء، فهناك دول كثيرة ومدن وأنهار تغيرت أسماؤها. ولكل حالة أسبابها. وهنا يلعب التاريخ دوراً رئيسياً في صناعة الجغرافيا، ويطغى بجبروته وقوة حركته على قوانينها.

ولأن الموضوع له علاقة بالجغرافيا، والتاريخ أيضا. بمعنى أن المكان يكتسب صفة الثبات، لكن التسميات هي من صنع إنساني، ولذلك تتصل مباشرة بالتاريخ. ولأن التاريخ حركة فوارة، والإمبراطوريات تتمدد وتتقلص، والذي يحكمها في ذلك توازن القوة، فإن التسميات تنتقل هي الأخرى، وتتغير تبعا لسيادة منطق "إن المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ".

ولكيلا نذهب بعيدا في القراءة النظرية، ننتقل لموضوع الخليج الفارسي. وهي تسمية اكتسبت حضورها التاريخي، منذ القدم أثناء فتوة الحضارة اليونانية. والتسمية في الأصل للمؤرخ اليوناني هيرودوت، الذي زار الشرق، دون معرفة بجغرافية المنطقة ولا بسكانها، فأطلق على الخليج صفة الفارسي، ووردت أيضا بخليج العجم. ولا إخال هذه المعلومة بعيدة عن معارف الأستاذ هيكل، الذي يعترف له الجميع بسعة وعمق العلم والمعرفة.

في كتب التاريخ الفارسية القديمة، كما في الفلكلور والأدب ومختلف الفنون، لا توجد أية إشارة إلى قرب فارس من البحر. فليس في إرثهم ما يشي بركوبهم البحر، لا فلك ولا مد أو جزر، ولا أصداف ولا ثروات بحرية. وآنذاك لم يكن لبلاد فارس، أية علاقة بالمنطقة الممتدة من غرب باكستان وأفغانستان، حيث يقطن البلوش، إلى الأحواز المنطقة العربية التي احتلها الإيرانيون في عام 1937م، من القرن المنصرم.

إيران نفسها، كما تعلم أستاذ هيكل، تسمية معاصرة، ولا تتكون من بلاد فارس وحدها بل تشمل قوميات وإثنيات، ومناطق قام الفرس باحتلالها، وكونوا منها إيران المعاصرة. وقبل العالم بأسره التسمية الجديدة، بحدودها القائمة، رغم ما لحق القوميات الأخرى، التي تعيش في إيران من عسف وجور. وقد تناولنا ذلك في حديث سابق بشيء من التفصيل. وإذا جاز للأستاذ هيكل أن يستدل بالكتب المدرسية، ليؤكد "فارسية" الخليج، فإننا نستدل بالتاريخ، لنؤكد أن فارس ليست لها علاقة، بحكم ما دونته المواريث والفلكلور والفنون الفارسية بالخليج العربي. وقد كان لفترة طويلة، من أدناه إلى أقصاه، وعلى ضفتيه الشرقية والغربية عربيا.

نعود مرة أخرى للخليج الفارسي ولهيرودوت، تذكرنا قراءة تاريخ تسمية الخليج من قبل المؤرخ اليوناني، بكروستوفر كولومبس مكتشف أميركا. لقد اتجهت طليعة المكتشفين لأميركا من إسبانيا نحو الغرب، بقصد الوصول إلى الهند، باعتبار الأرض كروية. ولم تكن تعلم أنها ستحقق أكبر إنجاز استكشافي جغرافي في التاريخ البشري الحديث. ولأن وجود القارتين الأميركيتين، الشمالية والجنوبية لم يكن في حسبان المكتشفين، حسبوا سكانهما هنودا، وأطلقوا عليهم لاحقا الهنود الحمر، تماما كما أطلق هيرودوت، دون معرفة منه بتضاريس المنطقة ولا بجغرافيتها البشرية، على الخليج العربي، الخليج الفارسي.

ومع ذلك، كان بالإمكان تجاهل هذا الموضوع، وحسبان التسمية أمرا واقعا، ليس من المجدي كثيرا الوقوف عنده، طالما أن التسمية لا ترتب حقوقا لإيران، لكن الأمر هذا، للأسف يجانب الصواب. فالفرس أكدوا مرارا، عبر التصريحات والأعمال الاستفزازية والعدوانية، أن تسمية الخليج ب"الفارسي" ترتب حقوقا لهم على الضفة الغربية من الخليج. وكانت المطالب الإيرانية في منطقة الخليج قد بدأت منذ أيام الدولة الصفوية، واستمرت في دورات متعاقبة حتى يومنا هذا.

وتعلم أستاذ هيكل، أن المحمرة، بمدنها التاريخية الرئيسية المعروفة، الأحواز والحويزة وعبادان أصبحت الآن ضمن قائمة المصروفات. وإثر احتلالها جرت عملية تفريس سريعة لها. وتعلم أيضا، أن الإيرانيين يحتلون جزرا عربية تابعة لدولة الإمارات العربية، وأن هناك مقاعد شاغرة للبحرين، في البرلمان الإيراني، على أمل أن يتم شغلها بعد احتلال إيران لها. وتتذكر ضخامة الجهود التي بذلها العرب، دفاعا عن عروبة البحرين، إثر استقلالها عام 1970م. وكانت القيادة المصرية، آنذاك، في طليعة الذين قادوا النضال دفاعا عن عروبة البحرين، وأيضا عن عروبة الخليج.

نتمسك بتسمية الخليج بالعربي، لأن ذلك يرتب لنا حقوقا، هي بحكم الجغرافيا والتاريخ حقوق عربية، ويتمسك الفرس بتسمية خليجنا بالخليج الفارسي، ليرتبوا على ذلك حقوقا، ينتزعونها بالاغتصاب والعدوان. وسيتواصل صراع الإرادات إلى أن تكف طهران عن تهديد أمننا واستقرارنا وهويتنا العربية.

والعراق، في حساباتنا، أستاذنا العزيز "ليس حاجة ثانية"، لقد كان مهد البداية في صياغة قانون العدل، وكتابة الحرف ولمدارسه في الكوفة والبصرة ديون كبيرة في أعناقنا، وسنستمر ندافع عن عروبته بكل ما نملك من عزيمة وصبر وقوة، إلى أن ينبلج صباحه، العربي، ويعود أبو جعفر المنصور، بجحافله وجيشه الظافر، ليطل على دجلة من الضفتين بالكرخ والرصافة، من فوق مشحوب يرفع سارية عباسية، قريبا من مصب القرنة، حيث يرقد واصل بن عطاء في أمن وسلام. وليبقى خليجنا للأبد، خليجا عربيا، فتتجانس مجددا حقائق الجغرافيا والتاريخ.