في الوثيقة الصحوية التي كتبها سليمان النهدي -أرجح أنه اسم مستعار- والتي عنوانها (لماذا خافوا من اللجنة الشرعية، طبعة أولى 1993) ذكر أن اعتقال الرموز الصحوية في ذلك الوقت إيذان بانطلاق الجهاديين من قمقمهم، وإيذان ببداية العمليات الجهادية -زعموا- في الداخل، والتي كان يقف أمامها سدا منيعا الدعاة والمصلحون، ولم نفقه هذا الكلام جيدا حينها حتى مع كثرة ترداد وعاظ الصحوة له في ذلك الوقت، إذ لم يكن من المتخيل أن يقوم مواطن سعودي بتنفيذ عملية انتحارية في الرياض أو الدمام أو جدة أو غيرها من مدن المملكة.
ما قاله النهدي لم يُقصِّر أشياخ الصحوة في قوله وإيصاله واضحا للناس، اسجنونا وستنفجر في وجوهكم فتنة التفجير والقتل والدمار، مضى هذا الكلام ولم نأخذه على محمل الجد كثيرًا على الرغم من بعض الحوادث الفردية التي لا يمكن حسبانها في سبيل العمل الجهادي «الإرهابي» داخل البلد حتى جاءت السنة الكئيبة 1995. ففي نهار 13 نوفمبر من ذلك العام انفجرت سيارة مفخخة وسط الرياض خارج مبنى تابع لشركة فنييل الأميركية، نفذ هذا العمل الإرهابي الجبان أربعة سعوديين هم: رياض الهاجري، ومصلح الشمراني، وخالد السعيد، وعبدالعزيز المعثم، الثلاثة الأوائل من خريجي الصحوة الذين انقلبوا إلى جهاديين يكفرون الناس بالظن، والشبهة، ويرون حل الدماء المعصومة، أما الأخير فصحوي لفه أبومحمد المقدسي -التكفيري الأشهر في العقود الأربعة الأخيرة- تحت ردائه.
قبل ذلك لم يعرف المجتمع السعودي الإرهاب إلا أحداث متفرقة تاريخيا، لنقل تجاوزا إنها بدأت مع الهالك جهيمان وجماعته في عام 1979، ثم مجموعة أحداث متفرقة قام بها حزب الله الحجاز الشيعي، ولا يمكن اعتبار محاولة أحد الصحويين الانتقام من ضابط المباحث في الحادثة المشهورة في 11 نوفمبر 1994، إلا بداية شرارة أطلقت هذا المارد الذي زعم الصحويون ورموزهم أنهم يمسكون بزمامه، ويشار إلى حادثة التفجير تلك كانت ردة فعل على إقامة حد القصاص في الصحوي ذاته الذي نفذ هجومه على ضابط المباحث.
وفي عام 1990 زار عصام بن طاهر البرقاوي، الشهير بأبي محمد المقدسي، بريدة، والتقى بجمع من المشايخ من مختلف الأطياف والتوجهات، حسبما ذكر الكاتب والمفكر الأستاذ منصور النقيدان في أحد مقالاته، بعد هذه الزيارة بأشهر تقل عن السنة بقليل، كان واعظ صحوي يشرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب بين الأذان والإقامة من صلاة العشاء، ويطيل النفس في الحديث على شرح الكتاب وربطه بالواقع المعاصر، وكان يحضر جمع غفير من الشباب غض الإهاب قليل الخبرة والعلم، وفي ليلة من الليالي أثنى هذا الواعظ على المقدسي وعلى كتابه الشهير «الكواشف الجلية»، ولما لوعاظ الصحوة من قدسية لم يناقشه أحد، أو يعترض عليه أحد، والمفارقة أن ذات الواعظ دشن موجة إيقاف الصحويين، حيث تم إيقافه في ديسمبر 1992، وكان هذا الإيقاف سببا في إطلاق لجنة الفقيه والمسعري، والذي تشظت لاحقا، وفشلت وذهبت ريحها.
أعود لوثيقة أخرى مهمة كذلك وهي: ما حدث في الحفل السنوي لحفظ السنة النبوية 1990، والذي أقيم في مدينة بريدة بحضور أمير منطقة القصيم حينها الأمير فيصل بن بندر، كان الشباب الصحويون يعلمون ضمنا أن رمزهم الكبير يتحاشى السلام على المسؤول راعي الحفل، وهو ذاته بعد عقد من ذلك التاريخ كان يذرع ممرات موازية في الجمعية الخيرية في بريدة لمحاولة الالتفاف ليواجه راعي الحفل من الأمام للسلام عليه، وفي حفل السنة المشار إليه تقدم الرمز الصحوي ذاته ليلقي أول أسئلة اختبار الحفاظ أمام الحضور، فكان البداية مع حديث يدل بوضوح على عدم جواز الاستعانة بمشرك، وهو الذي لقي من الشباب إعجابا شديدا لجسارة الشيخ وجرأته في الحق، إذ لا يزال الجدل دائرا حول حكم جواز استدعاء القوات الأميركية للمعاونة مع الدول الشقيقة والصديقة في تحرير الكويت، وكان من ضمن أحداث ذاك الحفل أن أقيمت على هامشه عدة فعاليات، منها محاضرة في الرس بعنوان الجهاد في سبيل الله، ألقاها أربعة من الرموز الصحوية، وكعادتهم مرروا المعاني المناقضة لكل ما هو مواطنة ووطن، حتى وإن زعم أحد كبار الصحويين أنه ضد ذهاب الشباب للجهاد، وهذا صحيح بنسبة كبيرة، غير أنه ذكر السبب سرا و جهارا عدة مرات، وهو أنه بذهاب الشباب هناك فإننا كمن يضع بيضه كله في سلة واحدة، فنحن بحاجتهم هنا أكثر، ولك أن تفسر هذه العبارة على ضوء ما حدث لاحقا. وإن كان الله خيب ظنه وظن من كانوا على شاكلته.
من هذه الأحداث وغيرها كثير، انطلق الإرهاب في البلد، وكان أثره كبيرا على نفوسنا، وقناعاتنا ووطننا، غير أنه مع ذلك كله كان له أثر عكسي إيجابي على الساحة السعودية، وهو ما سوف أسلط عليه الضوء في التالي من السطور، فقد عملت الجهود الموفقة لمكافحة الإرهاب أو التبرؤ من تهمته على تسريع التحولات في التدين بشكل خاص، وفي المجتمع بشكل عام، حيث أسهم في مراجعة نقدية صارمة وحازمة، للخطاب الديني والفعل الديني الحركي بشكل عام، فقد تصاعد الصوت المضاد للصحوة، وحصلت مجموعة أحداث لم تكن لتحدث لولا الحملة التي قادتها الحكومة السعودية على الإرهاب ومنابعه، فقد كانت حملة على كافة المستويات، وأهمها وأعقدها ما كان على المستوى الفكري، فأحدثت تراجعات كثيرة على مستوى الفتوى، والخطاب الديني بالعموم، مما أدى إلى اكتساب الحراك والفعل الديني في البلد صفة المهادنة والسعي إلى المناطق الرمادية، والخروج من مآزق الأسئلة، وفخاخ الإشكاليات، شذَّ عن ذلك بعض الأصوات التي حاولت وتحاول البقاء على النمط القديم ذاته ولو بالشكل.
الأثر الأبرز للحرب على الإرهاب، كان في إعلاء اللحمة الوطنية، ومكانة الوطن فوق كل شيء، حيث وجد المنظرون لمكافحة الإرهاب، أن الخلل يكمن في طغيان مفهوم الأمة الإسلامية على مفهوم الوطن في ثقافة السعودي، والذي كان وراءه في الأساس التربية الإخوانية لأجيال من أبناء المملكة الذين عقلوا مفهوم الأمة والأخوة الإسلامية، وفقا للمفهوم الذي أراده منظرو الإخوان.
جاء العمل على هذه النقطة بشكل واضح وصريح، عبر الخطاب والفعل الإعلامي والثقافي الرسمي وغير الرسمي، والذي تحرك في هذه المنطقة بكل اقتدار وجدارة، دعم ذلك مجموعة من المحفزات التي أطلقتها الحكومة لتنشيط وتفعيل مفهوم المواطنة، من أهمها احتفائيات اليوم الوطني في مناطق المملكة، والذي أضحى احتفالية كرنفالية يتشارك فيها الجميع بلا استثناء.
الهرب من تهمة الإرهاب، أو دعمه، قاد الكثير من الإسلاميين إلى التجرؤ أمام جمهورهم بعمل مراجعات وتراجعات كثيرة، وكبيرة غيرت وجه التدين السعودي على المستوى الشعبي.
كما أن المعركة على الإرهاب قادت -وبكل جدارة- عملية توسيع نطاق الآخر، وإدخاله كمفهوم حر من قيود الممانعة في عقلية الخطاب الديني السعودي، وهذا إن استغل بطريقة ذكية، وتمت قيادته بحكمة، سيجعل القاسم المشترك والرابط الأقوى، هو الصوت الوطني الذي تنضوي تحت رايته الرايات جميعها.