جاءت الزيارة الحالية التي يقوم بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة الأميركية كتأكيد على استمرار روابط الصداقة المتينة والتعاون الممتد بين البلدين منذ عقود، حيث كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول الغربية التي تعاونت مع المملكة في مسيرة نهضتها الأولى، وهي من ساهمت ومن خلال شركاتها العملاقة في اكتشاف حقول النفط ومن ثم تكريره وتصديره إلى دول العالم، ولم يكن تعاونا اقتصاديا فحسب، بل كانت هناك البعثات الاستكشافية من الشغوفين بالصحراء من مواطنيها الذين توافدوا على المملكة، وبعضهم أقام فترات طويلة وكون صداقات مع السعوديين، وتستطيع أن تفهم قدم هذه العلاقات من خلال روايات كبار السن وذكرياتهم مع من تزاملوا معهم في شركات النفط، ومثلت شركة أرامكو قوة التشارك الاقتصادي بين البلدين، ومن خلالها تعلم السعودي مجالات أخرى للعمل غير الفلاحة والتجارة، وأيضا كانت السبيل الأوحد أمامه في تلك الفترة لتعلم لغة جديدة والتعرف على أشخاص آخرين خارج محيطه.

 ما هو لافت أن الأجداد تآلفوا مع القادم من بعيد، ولم تأخذهم تلك الفكرة الطارئة اليوم أنه خطر وهدفه مصادرة إرثهم الثقافي والديني، على العكس من ذلك تعايشوا جميعا دون أن يكون للاختلافات تأثير عليهم، والأميركي هو الآخر أدى دوره الذي جاء من أجله بكل إخلاص إلى أن غادر إلى وطنه.

 الهدف من هذه المقدمة توضيح جذور العلاقة بين البلدين وأن ما شاهدناها من حفاوة واهتمام بزيارة ولي العهد يأتي مؤكدا لهذا العمق التاريخي وللرغبة من جانب الأميركان شعبا وحكومة في تعزيز هذه العلاقة، وهي بلا شك في صالح البلدين وتخدم مصالحهما بالدرجة الأولى، وكل من الدولتين تمثل ثقلا سياسيا واقتصاديا في جزء من العالم، وربما كانت أميركا تبسط نفوذا أوسع على دول العالم، غير أن ذلك النفوذ يحتاج دولا داعمة كما هو دور الحكومة السعودية في عملية دعم ومساعدة الجانب الأميركي في خططه الإصلاحية ومحاربته للإرهاب في الشرق الأوسط والعالم بأسره.

 هناك من حاول استغلال أحداث ماضية لتوسيع الفجوة بين البلدين غير أن الحكومتين ومن خلال معرفة كل منهما التامة بالجانب الآخر في العلاقة ومدى دعمه وحرصه على سيادة الأمن والسلام تجاوزتا تلك الثغرات، وعادت العلاقة إلى سابق عهدها من الاحترام والتعاون، وزيارة ولي العهد ليست الوحيدة، فقبلها حل الرئيس الأميركي ترمب ضيفا على المملكة العربية السعودية بعد تنصيبه بفترة قصيرة، وهذه الزيارة كانت الدليل الأقوى على ثقل المملكة السياسي الذي جعلها من المحطات الأولى والقليلة لزيارات رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وكانت الزيارة مهمة ومثمرة ورسمت معالم العلاقات السعودية الأميركية خلال فترة رئاسة ترمب، وما لحق بها من زيارات يصب في هذا الاتجاه ويترجم الاتفاقات المبرمة بين البلدين، وكانت ملحة بحيث تم البدء في التنفيذ، وزيارة ولي العهد كما شاهدنا كانت بالشمولية بحيث تطرقت لجميع الجوانب التي لا يقل فيها جانب عن آخر من ناحية الأهمية، وربما لاحظ البعض تركيز سمو ولي العهد على الجانب الاقتصادي، وهذا الجانب هو ما يهم الشعب باعتبار أن السياسة وأمورها قائمة والنقاش فيها دائم، غير أن الجانب الاقتصادي هو الملح بحكم أننا مقدمون بحسب رؤية المملكة 2030 على نقلة نوعية تتطلب جهودا جبارة، تشارك في بلورتها كبريات شركات العالم، وأميركا بثقلها وضخامة اقتصادها تسيطر على الاقتصاد العالمي، والأمير محمد بن سلمان بحنكته وتطلعاته للتطوير والانفتاح على شعوب العالم المتحضر، يركز اهتمامه على فتح قنوات تواصل وتعارف واطلاع على ما لدى الأميركان من تجارب في هذا المجال، وما يستطيعون المساهمة به في مشروعنا الحضاري، كون تجاربهم جبارة، ولا غنى عن الاستفادة منها لأي دولة مقبلة بحماسة على تأسيس قاعدة متينة تنطلق منها إلى بناء واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي جديد ومتطور، يلغي سنوات من الركون للماضي، وما كان فيه من إحباطات وتخويف من الإقدام على أي فكرة خارج فكرة التحليل والتحريم، وما هو مؤكد أن المملكة وبقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده، قد أوقدت مشاعل النور لتطرد ظلاميات الماضي وتفتح آفاق البهجة والانطلاق أمام الشعب السعودي الشغوف بتفاصيل المرحلة القادمة، وليس هو المبتهج بتلك التغيرات بل دول العالم الصديقة ومنها الولايات المتحدة أشادت بتلك المبادرات، واصفة إياها بالخطوات المتميزة في مجال الإصلاح، وما حفاوتها باستقبال الأمير محمد بن سلمان إلا تعبيرا صادقا عن مساندتها لكل خطواته، ومباركتها لكل ما يقوم به في سياق دعم الانفتاح ومنح الحقوق وخاصة فيما يتعلق بالمرأة، وهي من نالت نصيب الأسد من هذا التغيير والاهتمام، وجعلها في مقدمة الأسئلة التي يطرحها الإعلام الغربي على سموه، ولا نلوم الإعلام فقد بقيت لعقود مغيبة ومكبوتة بفعل ثقافة التشدد والتطرف التي كانت تخيم على مجتمعنا.