القراءة في كتب التراث حول أفكار الجبر والتسليم وقسمة الأرزاق تعزي الذين يحفرون الصخر سنوات طويلة، فلا يجدون ذهبا ولا فضة ولا مكانة، فيما يجدها القاعدون المتفرجون عليهم، ومن هم دونهم في القدرات والإنتاج، فسبحان مقسّم الأرزاق.
العمل –في جوهره– بحث دائب عن الرزق، لكن القارئ في الشعر العربي القديم، يصطدم ببعض العقائد أو الفلسفات التي تحد من قوة الاندفاع البشري نحو العمل للحصول على المال، إذ تأثرت أمور الكسب والرزق بأفكار الجبر والتسليم والزهد في الدنيا.
وقد ذهلت من كثرة الشواهد الشعريّة التي تصور هذا الجانب، حتى تخيلت أن الاتكال قد أصبح سمة اجتماعية غالبة، ومردّ ذلك إلى خطأ في فهم هؤلاء لبعض نصوص الحديث ونصوص الأثر التي تحمل معاني الزهد في الدنيا، ولذا استنكف كثيرٌ من الزهاد ـ ومنهم بعض الشعراء النساك ـ عن شغل الأذهان بالتفكير في الرزق الآجل، وتبعهم في ذلك شعراء من غير النساك والزهاد.
لقد أدت كثرة الشواهد الاتكالية إلى أن خصَّت بعض كتب التراث هذا الموضوع بأبواب كاملة تحوي أشعاراً تحمل هذا المعنى، كما هو الحال في كتاب: «بهجة الجالس وأُنس المجالس»، وهذا يدل على أن الفكرة الجبرية المتعلقة بالرزق قد شاعت حتى صارت نوعاً من عزاء النفس بالنسبة إلى المعدمين، ومنهم المؤلفون والورّاقون والشعراء آنذاك، ومثلهم الباحثون والمؤلفون والمثقفون الآن.
العجيب أن بعض الشعراء يناقضون أنفسهم في هذه القضية، ومن ذلك ما وجدته في الديوان المنسوب إلى أبي الأسود الدؤلي، فعلى الرغم من كثرة حديثه عن المعاملات الدنيوية، إلا أن الغالب عليه هو التناقض والتقلب؛ ففي الوقت الذي أجد عنده دعوة واضحة للعمل والسعي من أجل الحصول على الرزق، في مثل قوله:
وما طَلبُ المعيشةِ بالتَّمنّي
ولكنْ ألقِ دَلْوكَ في الدلاءِ
تَجئْكَ بملئِها يَوماً، وَيَوماً
تجئْك بِحَمْأةٍ وَقَليلِ مَاءِ
أجد هذه الدعوة تتناقض مع معنى آخر، حين يقول:
وعجبتُ للدنيا ورغْبَةِ أهْلِها
والرِّزْقُ فيما بَيْنَهم مَقْسومُ
والأحْمقُ المَرْزوقُ أعْجبُ مَنْ أرى
من أهلِها والعَاقلُ المَحْرومُ
ثم انقضَى عَجبي لِعِلمي أنّه
رزقٌ موافٍ وقتُه معلومُ
ففي حين يدعو إلى الكسب، يعجب من هذا الفعل البشري؛ لأنه يرى الأرزاق مقسومة ومقدَّرة، حتى إن الأحمق يصير غنيّاً، والعاقل فقيراً، وبالرغم من عجبه ذاك فإنه موقن بأن الأرزاق معلومة ومقسومة.
وليس معنى البيت الثاني ـ عند أبي الأسودـ ببعيد عن قول كعب بن زهير:
قد يُعْوزُ الحازمُ المحْمودُ نيَّتُه
بَعْد الثَّراءِ ويُثْري العَاجزُ الحَمِقُ
لكنَّ كعباً ـ بالرغم من شبهة الاعتراض في هذا البيت يعيد الرزق إلى الله في القصيدة نفسها، حين يقول:
إنْ يفْن ما عندنا فاللهُ يَرْزقُنا
ومن سِوانا، ولسنا نَحْنُ نرتزقُ
ولعلّه بذلك يقصد ضُرّاً ماديّاً مسه، فأراد تعزية نفسه بالبيت الأخير.
وعند تجاوز أفكار الجبر والتسليم المتعلقة بالرزق، إلى «الهياط» العربي القديم الذي يسمونه كرما، تظهر عند بعضهم فكرة الاستهتار بالمال، وهي فكرة شاعت عند العرب الجاهليين تأسيساً على الكرم، وساندتْها فلسفات اللهو واللذة وإفناء المال في الملاهي قبل الفناء.
موقف الكرم أحد أهم المواقف التي تتجلى فيها هذه الفلسفة البذلية المرتبطة ـ دائماً ـ بالموت الذي لا ينفع المال الوفير عنده. يقول ساعدة بن جؤيَّة:
وما يُغني امْرأً ولدٌ أجَمَّت
مَنِيتُه ولا مَالٌ أَثيلُ
ولو أمْسَت له أدْمٌ صَفَايا
تقرقر في طرائِفها الفحولُ
أما عند حاتم الطائي، فإن عدم الاكتراث بالمال يشكل ركن فلسفة الكرم الحاتمي، فالمال عنده لا يدفع الموت عن مالكه، فضلا عن أنه لن يحمله معه إلى قبره:
أماويَّ ما يُغْني الثَّراءُ عَنِ الفَتى
إذا حَشْرَجَتْ نَفْسٌ وَضَاقَ بهَا الصَّدْرُ
إذَا أَنَا دَلاَّني الذينَ أُحِبّهُمْ
لملحُودةٍ زُلْجٍ جَوانِبُها غُبْرُ
وهذا المعنى يتكرر مراتٍ متعددة في ديوانه.
ولعل تواصل هذا المعنى الجاهلي في صورته الأولى عند الأخطل في عصر بني أميّة، يقدم تفسيراً لوجود مثل هذه الأفكار عند شعراء الجاهلية الذين ربما كان لهم علم ببعض تعاليم النصرانية. يقول الأخطل، وهو نصراني الديانة:
أعاذِلَتَيَّ اليوم ويحْكما مهلاً
وَكُفَّا الأذى عني ولا تُكثرا عَذْلا
ذَرَاني تَجُدْ كَفّي بمالي فإنني
سأصْبِحُ لا أسْطيع جُوداً ولا بُخْلا
ويمكن أن تكون بعض الممارسات السلبية المرافقة للعمل التجاري سبباً في انصراف آخرين عنه؛ ذلك أن محاولات الكسب السريع من كل الوجوه ترتبط بالغش والكذب والاحتيال، مما جعل فئة تظن هذه الشوائب سمة لازمة للعمل التجاري، ولذا عبَّر أعرابي عن هذه الفكرة رابطاً إياها بفكرة زوال الذات قبل زوال المال، فقال:
يقُولُون ثمّرْ ما استَطَعْتَ وإنَّما
لوارثِهِ ما ثمَّرَ المالَ كاسبُه
فكلْه وأطعمْه وخالِسْه وارثاً
شحيحاً ودهراً تعتريك نوائبُه
وهم في ذلك ينظرون إلى الكسب من زاويةٍ تحجب الدور الاقتصادي والاجتماعي والحياتي الذي ينهض به أهل البيع والشراء، بعيداً عما قد يشوب عمل بعضهم من المخالفات والتجاوزات. إن المواقف والصور التي يحملها الشعر العربي القديم تعرض صوراً واضحة لما كانت عليه الثقافة العربية، وهي في الوقت نفسه، صورة واضحة لما بقيت عليه هذه الثقافة في بعض البيئات، مما يعني أن عقولنا تراوح أماكنها، وأننا نفاخر بالتكلّس متذرعين بالأصالة وعادات الآباء والأجداد. جلّ هذه الصور لا تبدو سافرة في تراثنا الشعري، ومردّ ذلك كونها تأتي عرضاً في ثنايا قصائد تقليدية أراد بها أصحابها أغراضاً معتادة، إلا أنهم صوروا بها ملامح متناثرةً يمكن للقارئ أن يضم بعضها إلى بعض، ليصل إلى صورةٍ ذات ألوان واضحة لحالنا البائدة المتجددة.