العقل دلالة في الثقافة على قيمة، أي على تفضيل وامتياز، سواء في دلالته الاسمية، أو في الصفات المشتقة منه والمنسوبة إليه، مثل «العاقل» و«المعقول» و«العقلانية». فهو المقابل للحُمْق والسَّفَه والجهل والهوى والعاطفة والذاتية والانحياز وما يتصل بها ويتفرع عنها من دلالات لا تحمل سلبيتها إلا في مقابِلِه ومقابِل ما يتصل به ويتفرع عنه.
وأول دلالات «العقل» من هذه الوجهة القيمية في الثقافة، الدلالة الأخلاقية؛ فالعقل دلالة على الخُلق القويم، والسلوك السوي. والعاقل هو من يكون له من عقله رادع عن مزالق الهوى وأخلاق السوء.
وتأتي القدرة على الإدراك وحسن الفهم والتصور، وجهاً بارزاً من وجوه دلالة العقل، فهو أداة ذلك ووسيلته، بقدر ما هو نتيجته ومحتواه. والعاقل هنا ليس صاحب الخلق الحسن وحسب، بل هو من يملك الفهم والدراية وحسن التقدير والوزن للأشياء والمعاني.
وهذا يقودنا إلى «الحقيقة» من حيث هي، في الثقافة، مقابل الخيال والكذب والخطأ، سواء في انطباقها على معنى الواقعي، أي ما هو حادث فعلياً، أو على ما هو صادق وصحيح ويقيني، أي متحقق وغير مخالف للواقع.
فالعقل دلالة على الحقيقة من حيث هو وسيلة تثبُّت وتحقُّق واستيقان، وتغدو الحقيقة دلالة على المعرفة من وجهة التقويم لها، بقدر ما تغدو دلالة على العقل من حيث هي نتيجته ومحتواه.
ونتذكر هنا المعنى الهيجلي للعقل الذي يطابقه بالواقعي والحقيقي، فما هو واقعي -من وجهة هيجل- فهو عقلاني، وما هو عقلاني فهو واقعي بالقدر نفسه.
ولن تكتمل دلالة العقل على هذا الصعيد من دون أن نصل بينه وبين العلم الذي يأخذ العقل في ضوء العلاقة به صفة الموضوعية وعدم التحيّز والوثوقية، كما يأخذ معنى الإدراك وحسن الفهم والنقد والتمييز، ومعنى الذاكرة والحفظ للمعلومات.
فالعلم محتوى يُنتِجُه العقل، ولكنه في صفته المفعولية هذه أداة تُنتِج العقل، وتستحيل من المفعولية للعقل إلى الفاعلية له.
هذا الازدواج في دلالة العقل، هو ما جعل مفهومه لدى لالاند قائما في التمييز بين ما سماه «العقل المكوِّن» بصيغة الفاعل، و«العقل المكوَّن» بصيغة المفعول.
ومفهوم لالاند هذا، هو ما اعتمده محمد عابد الجابري في شأن العقل، حين درس «العقل العربي» في أشكال المؤلفات وأنساقها، دراسة تنفذ إلى العقل الذي يؤلفها ويصنع خصائصها؛ فيتميز العقل العربي في ذاته إلى عقول مختلفة في أنساقها الحاكمة لتمايز أنساق المؤلفات: (البياني، والبرهاني، والعرفاني…)، مستمدا من ذلك مشروعية لتمييزه عن غيره من العقول الحاكمة للمعرفة في الثقافات الأجنبية (اليوناني، والغربي الحديث…).
ولا نستطيع أن نغفل -فيما عرضناه هنا- عما تتأسس عليه دلالة العقل من الميتافيزيقيا، حين ننظر إليه من حيث هو جوهر مستقل ومتعال، ونستكنه مفهومه في مدار التقابل الثنائي الذي يجعله نقيضا لطرف آخر وضده والمعارض له.
فكل تقابل ثنائي من أجل تمييز دلالة العقل ينهار عندما نعجز عن اليقين في تعيين الحد الذي يستقل به العقل. وهنا ندخل إلى الزاوية النظرية التي قادها جاك ديريدا، حيث التفكيك للتراتب بين الأزواج المتقابلة في اللغة والثقافة (العطف بالواو هنا هو عطف بين خصوص وعموم، فليست الثقافة شيئا غير اللغة وإن اتسعت بمعنى اللغة إلى غير اللسانية).
ومعنى التراتب بين الأزواج اللغوية والثقافية هو امتياز المعنى في مقابل آخر (طويل/ قصير، ليل/ نهار، رجل/ امرأة، إنسان/ حيوان... إلخ)، امتيازا يعلو -حتما ومن وجهة أيديولوجية- بأحدهما على الآخر، ويسبغ عليه المركزية والأفضلية والأولية في مقابل تهميش مقابله وإدناء منزلته وتأخيره... إلخ.
إننا نفهم العقل ونعدُّه قيمةً -مثلاً- عن طريق المقابلة بينه وبين العاطفة، ولكن متى تنتهي العاطفة ومتى يبدأ العقل؟! وهل تتجرد العاطفة من المعقولية تماماً، أو يتجرد العقل من العاطفية تماماً؟! ثم كيف ينعكس ما نخلص إليه في الإجابة عن ذلك على مفهومنا للعقل وتقويمنا له؟!.
هذه الأسئلة تنقض التقابل بين العقل والعاطفة، وتفكك التراتب الذي يتبادل مع هذا التقابل الثنائي الإنتاج، فلا يبقى للعقل استقلالية وجود، ولا تعال أو جوهرية، في مقابل ما هو بالضد منه.
وقد يبدو القول بالموضوعية وجها من وجوه الاستدلال على امتياز العقل وعلوِّه في مقابل العاطفة، فالموضوعية تعني البراءة من أدنى درجات الانحياز والهوى والذاتية، أي البراءة من العاطفة بمختلف آثارها والخلوص إلى العقل وحده الذي تصفو به المعرفة وتُحايد وتَثْبُت وتستقيم الأحكام.
ولكن الموضوعية بصفاتها تلك منتفية ما دمنا نتحدث عن الوعي الإنساني وتصوراته وأحكامه؛ فلا يوجد بشر بلا مخاوف ورغبات وحاجات، ولا يوجد بشر بلا وعي متحيِّز بشكل أو بآخر، وبلا فهم ومعرفة يتخالط فيها -قليلا أو كثيرا- عقله وذاتيته.
ولسنا نفقد الحياد والموضوعية بيننا نحن الأفراد، بسبب ما يتعلق بفرديتنا وحَسْب، من مشاعر وما يحكمها من ظروف وما يحدُّها من قدرات، بل نفقدها كذلك، بسبب انتماءاتنا وصفاتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية والمنهجية التي لا تكف عن الاختلاف ولا تبرأ منه.
هكذا لا تبقى العاطفة عمليا في قبالة العقل وعلى النقيض منه، ولا يصح أن نتصور العواطف بلا معقولية، مثلما لا يصح أن نتصور المعقولات بلا عواطف، وأي معقولية هذه التي نتصورها في علم شديد الدقة يُنتِج القتل والدمار والعدوان؟! وأي عاطفية في خوف الأم على طفلها من عبوره بين السيارات المسرعة؟!
غدا العقل في الثقافة دلالة ميتافيزيقية مجردة، نحيل عليها القيمة الموصوفة به التي نتمدح بها ونمدح بها، ولكنها دلالة مفارقة ومتعالية، تحجب واقعا عمليا لا ينفك عن الرغبة والهوى والذاتية، ولا يبرأ من الأوهام والتناقض والأضاليل.
ولم يعد الإنسان كائنا عاقلا، بل هو، فيما التفت إليه سبينوزا بقولته الأهم: «كائن راغب». فمن المستحيل تصور الإنسان بدون رغبات، وهي الرغبات التي غدت قرينة الوعي بالذات، فكل وعي بالذات هو وعي برغبة. وانتهى الأمر، في ثورات الفكر النظرية حديثا، إلى نقض سيادة الذات من منظور التاريخ والأيديولوجيا واللاوعي واللغة والبنية.
وهذا هو ما شرع الباب لوعي جديد بالحاجة إلى ما يعقلن الرغبة، وما يصنع وعياً جديدا بالذات، وعياً لا يركز على أنانية الذات وجوهريتها، بل على وجودها المحكوم بآخر والمتعلق به، حيث فكر الاختلاف.
وعلى الرغم من أن جدل التراتب بين النقل والعقل، في التراث الإسلامي، يصف من بعض الوجهات، تجدُّد العقل باستمرار وعَرَضِيَّته وليس جوهريته، وهو ما يَنْقُض استقلاله الميتافيزيقي وتعاليه، في -مثلا- قول ابن حزم الأندلسي: «العقل مخلوق مُحدَث، وهو قوة من قوى النفس، عَرَض محمول فيما أحدثه الله». وقول الشاطبي: «العقل غير مستقل البتة، ولا ينبني على غير أصل»، على رغم ذلك الوصف فقد كان القصد منه ضبط العقل بالنقل أي الوحي، وترتيبه عليه.
لكن الوحي في فهمه وتفسيره وتأوُّله غدا مفعول العقل المرتهن إلى الرغبة، والمطوَّع بالأيديولوجيا، والخاضع للقوة الاجتماعية، والمحدود بحدود الوعي المأسور إلى ثقافته وبشريته، فكانت معركة الخلاف العقدي والفقهي والسياسي في التراث الإسلامي وما زالت، معركة لم تبرأ -لدى أكثر الوجهات المختلفة- من العدوان والعنف والاضطهاد ضد المختلف، باسم «الحقيقة الدينية» وطلبا للإجماع عليها.