إذا أردنا إيقاظ الفكر، وإيقاد التفكير في عقول الناشئة الصغار بناة المستقبل، فالطريق إلى هذا الهدف النبيل؛ لن يكون إلا عبر «الكتاب والقراءة»، وكما قال العقاد حينما سُئل ذات مرة، لماذا تقرأ؟ فقال «لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني»، وحقا ما قاله، فالكتاب في حياة الكثيرين حياة أخرى.

 واليوم أمامنا فرصة كبيرة لا تتكرر في العام إلا مرة واحدة، وقد حل بيننا معرض الرياض الدولي للكتاب، وفتح أبوابه للجميع، وأصبح فعالية ثقافية كبرى ينتظرها بلهفة، عشاق المعرفة والكتاب في كل عام، والحمد لله أن لدينا معرضا دوليا آخر للكتاب في جدة، وقبل أيام أقيم لأول مرة معرض للكتاب بالقصيم، وكانت خطوة موفقة باركها المثقفون لأميرها ومثقفي القصيم، إلا أن الظروف قد لا تسعف أحدنا إلا لحضور معرض واحد، عموما معرض الكتاب، لم يعد مجرد عرض للكتب لتسويقها، فقد اعتدنا أن يحفل بأنشطة وفعاليات ثقافية متنوعة، تستقطب الجميع، فمن محاضرات، إلى ورش عمل، إلى ندوات، إلى عروض للصغار، ولأصحاب المواهب والإبداعات من الذين لديهم تجارب مع المعرفة والكتاب والقراءة، يعرضونها عبر منصة «مسك الخيرية» فيقدمون تجاربهم، إلا أن ما يهمني أكثر في مثل هذه الفعالية هو أن يجد الطفل ما يناسبه من الكتب والقصص، فأدب الطفل لدينا كما في العالم العربي، محصور في كتب وقصص أكثر ما فيها الحكايات التربوية، وهو أمر لا خلاف حوله، غير أني أقصد أن الطفل بحاجة إلى إبراز أدبه في إصدارات متنوعة تتضمن فكرا أدبيا وثقافيا يلبي احتياجاته النفسية والفكرية، وينمي عنده ملكات الخيال والتأمل والتفكير.

 أتذكر مرحلة مرت شهدنا فيها صدور عدد من مجلات الأطفال القصصية، لم نعد نراها، وكانت بعض الصحف تخصص صفحات للأطفال، بعضها اختفى اليوم، ولهذا كم أشعر بأننا بحاجة إلى تشجيع الأدباء والمتخصصين في الكتابة للطفل، وعودة القصص، وألا تنحصر في الدروس التربوية فحسب، بل تسهم في تشجيع مواهب الأطفال الشعرية والنثرية وكتابة الخواطر والقصص القصيرة، وتبنّي المواهب، وتربطهم بكنوز من تراثهم الثقافي الكبير، بما يسهم في الارتقاء بفكرهم وإشباع رغبتهم في المعرفة والمطالعة، وكم هو جيد لو أقيمت مسابقات للمهتمين بأدب الطفل، ليقدموا نتاجا فكريا سنويا، يتناسب ومرحلته العمرية والفكرية، فالطفل اليوم أحوج ما يكون إلى أن نقدم له المعرفة الورقية، كيلا يبقى «أسير» الأجهزة الحاسوبية، التي سلبت عمره ووقته، وعزلته عن محيطه الأسري والاجتماعي، رغم أنه أقرب إلينا من حبل الوريد، ولكن!

أذكر لكم من مشاهداتي لمعارض سابقة للكتاب، أني كنت أرصد حيرة في أعين الأطفال وهم يتجولون بين الكتب والمكتبات، وأبصارهم، وهي تجول في معروضات المكان، فلا يجدون في النهاية إلا ما يعرض في المعرض من ألعاب ودمى فينجذبون إليها، بينما القصص التي تصدر من بعض البلدان العربية لم تستهوهم، بعضها أعرفها صدرت قديمة مع تجديد طبعاتها، ربما أنها لم تنجح في جذبهم، نعم قد يكون عشقهم يدفعهم نحو شراء الألعاب، خاصة أننا بدأنا نشهد ميلهم نحو ألعاب تستدعي نشاطهم العقلي وتفكيرهم الإبداعي، وهذا شيء جيد، إلا أنه لا أحد ينكر كم نحن بحاجة إلى تنمية المعرفة والقراءة من خلال الكتب عند أطفالنا من الصغر، وكما قال فرنسيس بيكون «القراءة تصنع الرجل الكامل»، وكلنا يعرف بأننا في بواكير أعمارنا حظينا بمؤلفات وقصص وكتيبات، كانت تأتينا من مصر على غرار روايات قصصية قصيرة، كانت تعتمد المغامرة، مثل «المغامرون الخمسة»، والكثير من القصص مثل «ميكي، بطوط، سوبرمان والوطواط»، ومن الكويت كمجلة «سعد» ومن الإمارات مثل «ماجد وباسم» وبالمناسبة، مجلة ماجد احتفلت بالأمس القريب بمرور أربعين عاما على صدورها، ولا أنسى أننا حظينا بمجلة الشبل التي صدرت لفترة زمنية ثم انقطعت، ومجلة حسن، وأغلب تلك المجلات كنا نراسلها ونتبادل الصور مع أصدقائها، إضافة إلى قصص ذات مجلدات استهوتنا، كسيرة «عنترة، والملك سيف بن ذي يزن» وغيرهما كثير، بما في ذلك «قصص الأنبياء».

 ما أقصده أن مرحلة الطفولة فرصة أمام الآباء والأمهات أن يغرسوا من خلالها في أبنائهم، عشق الكتاب والمطالعة، لأن ذلك العشق حينما ينمو مع الزمن، فهذا يعني أن الأسرة أوجدت مفكرا صغيرا بينها، سيكبر مع الأيام، وستكون النتيجة، فائدة ومصلحة للأسرة والمجتمع، بدلا من الكوارث التي ندفع ثمنها من حياة أطفالنا الذين غرقوا في وحل وسائل التواصل الاجتماعي التي اختطفتهم بما تعرضه من الألعاب الإلكترونية، التي شكّلت شخصياتهم بشكل سلبي، وعنّفت سلوكياتهم.

ولهذا فمعرض الكتاب يعد فرصة أمام الأسر لزيارته، وتحفيز أطفالها على القراءة، وإعطائهم اختيار شراء ما يرغبون من الكتب المتوفرة من التي تكون مناسبة لهم، لتكون الانطلاقة نحو المعرفة بدءا من معرض الكتاب كمحفّز، كما أن المدارس مدعوة إلى تنظيم زيارات لطلابها إلى المعرض لتحقيق ذلك الهدف، وتحبيبهم إلى «خير جليس في الزمان..» كما قال المتنبي، فهم أمل الأمة المعقود في غدها بإذن الله «فالقراءة تصنع رجلاً كاملاً، والتأمل يصنع رجلاً عميقاً، والمحادثة تصنع رجلاً واضحا» كما قال بذلك «فرانكلين، وصناعة الجيل بحاجة إلى ما ذكره.

إنه لأمر جيد أن يجد أطفالنا وطلابنا من يحفّزهم ويشجّعهم، ويقتنص فرصة وجود معرض الكتاب بيننا لأيام معدودات، لحمايتهم من الأضرار والآثار التي قد يكتسبونها من «شبكة الإنترنت» من الأضرار الفكرية، وما قد يكتسبونه من سلوكيات شاذة تربيهم على العنف، وتعودهم على مناظر الجريمة حتى أصبحت مشاهد مألوفة، وتلوث أخلاقياتهم بمناظر ومشاهد تخاطب غرائزهم الشهوانية وهم صغار، وصدقوني إن غذاء عقولهم في هذا الزمن الصعب أهم من تغذية بطونهم، ومساعدتهم على تحقيق النمو المعرفي والعقلي واللغوي؛ من أوجب الواجبات على الأسرة، وكل معرض كتاب والجميع يتنفس المعرفة بألف صحة وخير».