أذكر فرحة الجميع عند قبولي وتثبيتي في عملي محاضرة جامعية، وأذكر أيضا الصدمة الشديدة عند استقالتي لأشارك في إنشاء شركة استشارات تعليمية. هذا التصرف يعتبر خطأ فادحا بالنسبة للغالبية العظمى، فقد انتقلت من جنة الأمان الوظيفي إلى أدغال ريادة الأعمال، في مجال غير ثابت وواضح مثل التعليم. تعالت الأصوات حولي ممن حاولوا ردعي عن ارتكاب حماقة سأندم عليها وضياع فرصة يتقاتل الكثيرون لأجلها. بالرغم من ذلك، فقد كان قراري واضحا بالنسبة لي، فإن كان من الخطأ ترك الوظيفة الحكومية، فمن منتهى الجنون أيضا أن أعمل في بيئة لا أتعلم منها بشكل مرض ولا أستطيع أن أسخر جميع قدراتي في خدمة الغير من خلالها.

السؤال الذي سألته لنفسي مرارا وتكرارا عند تركي العمل عن سبب الهوس بالوظيفة الحكومية وعلاقة ذلك بالإنتاجية على مستوى المنشأة واقتصاد الدولة بشكل عام. السؤال الأهم من ذلك يخص الأسباب التي قد تدفع أي شخص للخروج من القطاع الحكومي لينشئ عمله الخاص، أو يلتحق في القطاع الخاص أو اللاربحي. عند النظر في الأسباب التي تجعل الوظيفة الحكومية هي المسار الوظيفي الأمثل لدى البعض، أشعر بوجود غلطة كبيرة تمس فهمنا للإنتاجية وصناعة اقتصاد يقوم على الاختراع والإبداع. فالأمان الوظيفي، أو العلاوة السنوية المضمونة أو الافتقار إلى نظم تقييم الأداء والمحاسبية، هذه كلها عوامل تقتل الشغف على المستوى الشخصي وتسلخ الموظف تدريجيا حتى يندمج كليا في ثقافة العمل السائدة. هذه «المميزات» في نظر البعض، تخالف الكثير من الأبحاث والقواعد عن الإنتاجية وتؤدي إلى هدر الطاقات البشرية.

 بالتأكيد تختلف القطاعات الحكومية عن بعضها بشكل واضح ولا يمكن المقارنة بينها أبدا، لكن وجدت الكثيرين من أمثالي ممن عانوا في التعليم العالي من التحديات المذكورة سابقا، مما يدفعنا للتفكير في إعادة منظومة العمل في الجامعات بما أنها الجهة التي تخرج العاملين في كافة القطاعات. يوجد بصيص من الأمل في هذا الخصوص، فمن أهم التغييرات التي يشهدها قطاع التعليم العالي حاليا هو نظام الجامعات الجديدة القائم على التعاقد السنوي والاستقلال التام، مما قد يدفع بعجلة الإبداع والتطبيق العملي دون التقيد بعدد كبير من الإجراءات والأعمال الورقية. بالرغم من امتعاض البعض من هذه المسودة، إلا أنها ستعيد هيكلة التعليم العالي والتجربة الوظيفية للعاملين به.

في نفس الوقت، هل سيستطيع هذا النظام الجديد أو غيره مما هو على شاكلته في مختلف القطاعات الحكومية الرفع من مستوى الإنتاجية؟ أشعر بالحيادية بخصوص الإجابة، فهي بالتأكيد نقطة إيجابية تحسب للتعليم العالي، لكن الفقر في برامج رفع القدرات والإدارة الوسطى للموارد البشرية قد يشكل عقبات تمنع من التغيير التدريجي المأمول في الثقافة السائدة لدى التعليم العالي وغيره من القطاعات الحكومية. يعتبر تغيير ثقافة الوظيفة الحكومية حجر أساس في رفع الإنتاجية دون قصر النظر في مجالات التوفير المالي وتقتير الميزانيات. كما أن الخيارات المتعددة لتخفيض التكلفة على الدولة يجب أن تشتمل على توعية الجيل الجديد أو السابق ممن لا زالوا في انتظار وظيفتهم الثابتة لفهم الخيارات الوظيفية المتعددة سواء في القطاع الخاص أو اللاربحي أو ريادة الأعمال، مع توضيح النظام والإجراءات اللازمة لكل منها. الأدبيات عن الإنتاجية في القطاع الحكومي وتفعيل الكادر البشري لرفع اقتصاد الدولة كثيرة ويجب علينا استغلالها لتحقيق الاستفادة القصوى من العقول المتميزة.

أحيانا أسأل نفسي إن كنت سأختار نفس الوظيفة الحكومية مرة أخرى لو عدت بالزمن إلى الوراء؟ بالتأكيد. هل أشعر بالندم الآن للخروج من النظام الحكومي؟ بالطبع لا. هل يوجد احتمال بأن أعود للعمل الحكومي في المستقبل؟ ربما. أؤمن أن الحياة تشتمل على طرق متعددة قد تتنوع لدى البعض وقد نقوم بتغييرها في مراحل حياتنا المختلفة. الحياة مغامرة والعمر مَرّة.