كل إنسان يولد ولديه موهبة من الله، فإما أن ينميها ويتميز أو يهملها وتطوى مع مرور الزمن.
إن إهمال المواهب قد يكون من الفرد أو الأسرة أو المجتمع، فإهمال الشخص لموهبته يتمثل في عدم صقلها بالممارسة والبحث الدائم عن طرق جديدة ليستحثها، أما إهمال الأسرة يتمثل في عدم الاكتراث والالتفات لمطالب الطفل الموهوب معنوياً بالتشجيع والإثناء عليه، كذلك مادياً بتوفير ما يلزمه للتطبيق الفعلي والعملي.
أخيرا، إهمال المجتمع يكون على وجهين، إما بعدم توفير مساحات آمنة للموهوبين لممارسة مواهبهم، أو الأسوأ برأيي وهو محاربة المجتمع بأكمله للموهوب بإقصائه وزجره ونهيه اللامتناهي بشتى الوسائل. قد يكون الإهمال أمرا سيئا، ولكن هنالك ما هو أسوأ بكثير من ذلك، ألا وهو محاربة الإبداع بحد ذاته.
في هذا الصدد سأذكر ما حصل معي، كنت أعلم يقينا أنني سأكبر لأصبح رسامة، فلم أهمل هذه الموهبة، وكذلك والديّ اللذان أغدقا علي بكل ما يلزمني لأبدع من الدعم المعنوي والمادي، إلى أن وصلت إلى الصف الرابع الابتدائي، وقررت رسم الشخصيات الكرتونية ثم تطورت هذه الموهبة إلى رسم البورتريه. في يوم لا ينسى ذهبت مع أمي وأبي -حفظهما الله- لشراء علبة أقلام رصاص بها العديد من الدرجات كمكافأة تفوّق في المدرسة. عندما سألنا البائع عن الأقلام فسألني هل هي لك؟ فأجبت: نعم، فقال: يا بابا أنت صغيرة على هذه الأقلام، ولن تعرفي كيفية استخدامها. ثم قام باستبدال ما اخترت بعلبة أخرى من الألوان الخشبية، وقال انظري هذه «كويسة» وستحبينها بالتأكيد! في ذلك اليوم أظن أنني من أوجد كلمة (أكوَس) عندما قلت للبائع: كلا، «هذه (أكوَس) من هذه»، قلتها وكلي غيظ على هذا الرجل الطيب الذي كان يريد مساعدتي والأخذ بيدي لأرسم كسائر الأطفال. حمداً لله أن ثقة والديّ وافقت آمالي فحصلت على ما أريد.
عندما عدت إلى المنزل حاملة كنزي في يدي وشرعت في نسخ رسمة بورتريه واستغرقت ساعات طويلة حتى حان وقت النوم فقط لأثبت أني قادرة على استخدام هذه الأقلام، وبالفعل كانت النتيجة مذهلة بالنسبة لي ولأهلي.
عزيزي القارئ قد تظن أن ثقافة التحطيم انتهت عند بائع الألوان، للأسف هنالك المزيد. قررت أخذ تحفتي الفنية لعرضها على معلمة مادة الفنية التي طالما رددت لي (أنت موهوبة) فذهبت إليها أثناء الفُسحة لأريها كراستي فقالت لي: رسمة جميلة، (ولكن لست أنتِ من رسمها أنا أعلم أن أختك من رسمتها!).
فقلت لها ليس لي أخت وأنا رسمتها، فرددت لي كلمة (لا تكذبي). كانت كلماتها كفيلة بأن تبكيني ذلك اليوم. كبرت وتناسيت ما حدث وخلال السنوات استدعيت مراراً لمكتب المديرة لأتعهد على نفسي بعدم رسم أي شيء خارج حصة الفنية -خاصة الأرواح- كما سمعت كثيراً من المواعظ من المعلمات، وأهم ما جاء فيها أنني سأدخل النار نتيجة مضاهاتي لخلق الله.
وهل يعلم الطفل كيف يمكن أن تدخله بعض الرسومات النار؟ ولماذا ذكرن النار ولم تذكر إحداهن الجنة ولو لمرة واحدة؟
كنت أعيش التناقض والصراع الداخلي نتيجة الأشخاص الذين كانوا يثنون على تحصيلي العلمي، هم نفس الأشخاص الذين يلومونني على هوايتي. عندما وصلت إلى المرحلة الجامعية تركت الفن بلا رجعة واتجهت إلى الكتابة بشكل هستيري في محاولة يائسة مني لأنهي جميع المواعظ والحكم المُحتملة مستقبلاً. عندما أسترجع الأحداث لا أصاب بالبؤس لأنني على يقين أن المجتمع كان في أوج سطوة الصحوة.
فتناسيت وتناسى الكثيرون جروح تلك الفترة التي حملت في طياتها العديد من المتناقضات والمنغصات على الجميع، وبالأخص أهل الفن بشتى أنواعه، من تمثيل وغناء ورسم ونحت وتصوير. فنحن نعاصر الآن فترة إبداعية ذهبية مع تواجد هيئة الترفيه على الساحة ورعايتها الفنون في المقام الأول، فيجدر بكل هاوٍ وفنان أن ينمي ويرعى تلك الهبة التي يزهو بها قلبه قبيل عقله.