أيام قليلة - لا تتجاوز اليوم السادس من الآن - تفصلنا عن انقضاء أجمل فصول السنة وأكثرها فتنة وألقا، فصل الشتاء، بأجوائه الأسطورية المفعمة بليال من حنين وبرد. الحادي والعشرين من مارس. أذكر هذا اليوم جيدا من كل عام، فهو اليوم الذي ينتهي فيه الشتاء عن تقديم آخر هداياه الجميلة للكون والحياة، وهذا ما يغمرني بحزن مؤرق جميل على انقضاء هذا الطقس الكوني المفعم بالهبات.
ولعل من المصادفات التي شعرت بها «تأتلف» مع حالتي الشتائية الاستثنائية، تزامن هذا اليوم مع مناسبتين عالميتين اضطلعت بهما «الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو»، وهما «اليوم العالمي للشعر».. ثم «اليوم العالمي للسعادة»!، ومناسبة محلية ذات صلة، والتي هي المعرض الدولي للكتاب في العاصمة الرياض.
بدا لي أني في غمرة «جوقة» متآلفة من العلاقات بين الشتاء والشعر والسعادة والكتاب، فالشعر وبقية الأجناس المتناغمة معه أدبا وفنا، تجعل من الشتاء ملهماً لاتقاد جذوة ما يختلج في الداخل الإنساني، من عواطف ورغبات، مما يحرره من رتقة الألم لتشعر بأطياف من الاطمئنان والسعادة!، ثم هل ثمة أجمل من ليل أبيض طويل يتآخى فيه ساهره مع دفء الكتاب..؟! أو أن «العالميين والمحليين» معا قد تواطؤوا مع رؤيتي الحالمة للشتاء، فآثروا أن يجعلوا من يوم انقضائه السنوي يوما عالميا للسعادة، التي سيبحث عن بعض تجلياتها الآسرة الشتائيون من هواة المشاهد التي لا تتكرر أبدا! في الحقيقة.. ليس ثمة أجمل من الشتاء، حتى بالمعايير المكافئة للحس الجمالي في علم «الجمال»، المتقد صياغة وتلقيا! فالشتاء موسم للأناقة في اللباس والمظهر. كثير من المولعين بجماليات أردية الجسد ينتظرون الشتاء لممارسة ولعهم الجمالي بالتأنق المظهري، بذريعة اتقاء زمهرير البرد.. خداعا يبررون به للنظارة المنتقدين هذا الولع الأنيق! وبالتأكيد فإن «دور» الأزياء العالمية تجعل من موسم الشتاء فرصة، لعرض ما تجود به أيدي صناعهم الفنيين المهرة، من تشكيلات وتقاطعات للألوان والخامات لتكون موضاتهم الجديدة احتفاء بالبرد وشجونه.
كما أن موسم الشتاء طقس للمغايرة الجمالية، التي تمارسها تضاريس الكون للاحتفاء بضيفها الوديع، فتتحول رمال الصحارى ندفا من جليد أبيض، وتكتسي قتامة الجبال الصلدة بياضا، يضفي على سوادها طيفا لطيفا محببا للوجدان! في الشتاء يسمح لعقول «العلوم» أن تمارس حقها في التأمل بعيدا عن الضجيج، ولعقول (الفن) أن تمارس واجبها في الإبداع بعيدا عن وصايا المتعقلين! ولن يكون بدعا يبرر الاستغراب، عندما نجد أعظم وأجمل الفعاليات المحتفية بأنوار العقول وأشعة الحكمة وعطاءات الأرواح السادرة في غي الفنون، تختار الشتاء موسما لاحتفالاتها السنوية الراسخة في الزمن، فأهم معارض الكتب العالمية تقام أنشطتها ابتداء من أواخر ديسمبر وإلى نهاية مارس، كما هو الحال في معارض «بيروت والقاهرة والمغرب والدوحة والرياض»، وينطبق هذا الفعل الاحتفائي ذاته على الفنون الجمالية الأخرى بروح التزامن والتأثير، فمهرجان الموسيقى الأوروبية يقام في أواخر فبراير، والأيام الفنية لفناني عصر النهضة من بيكاسو وإلى دافنشي، تستقر لوحاتها الخالدة في عاصمة الفنون «روما» ابتداء من منتصف يناير وهكذا..!
وبالطبع فلن يبذل أي مشتغل بأجناس الجمال المقروءة والمسموعة والمرئية جهدا كبيرا، في الكشف عن العلاقة الوطيدة التي ينسجها الفن مع طقسه الشتائي المفضل أبدا.. ابتداء من شعرائنا القدماء الذين اقترنت قصائدهم الخالدة بالشتاء، الذي ينتظر ممدوحي الكرم في الخيام، التي تشتعل حولها نار، يستدل بها طالبو الدفء والامتلاء والمديح!، وإلى شاعر النار المشتعلة والأجساد المتخمة بالحنين.. نزار قباني الذي لا يطيب له العشق إلا في أحضان الشتاء: «إذا أتى الشتاء/ وحركت ستائره رياحي/ أحس يا صديقتي بحاجة إلى البكاء على ذراعيك ودفاتري..» وحتى بودلير في اتجاه الغرب البعيد، يجعل من هسيس الشتاء لغة فنية، ترمز إلى عالم ينضح أرقا مبينا وشاعرية ذات بيان ومبين! أما العالم الفني الأكثر ولعا وارتباطا بالبياض الشتائي العذب، فهو عالم «الرواية»،فـ«زوربا» كان يرقص على شواطئ الشتاء في رواية «زوربا» للهائل «كازانتزاكس»، و«فرانسيس» كان يتجول بين بيوت وكنائس مدينته اليونانية الأثيرة في أيام شتوية ممعنة في التراتيل! ولن أكن مبالغا إذا زعمت برؤية استنباطية بانورامية لحظية، بأن أكثر من ثلثي الإنتاج الروائي العالمي بكثير كانت شخصياته وفضاءاته، تمارس فعلها السردي في زمن شتائي «مؤكد».. دستوفسي.. ماركيز.. كونديرا.. موراكامي.. فارغاس يوسا..
لدرجة أن مقدمة كهذه لدستوفسكي في روايته «الأبلة».. نقرأ مثيلاتها كثيرا في فضاءات الرواية: «اقترب القطار السائر على سكة صوفيا- سان بطرسبرغ من العاصمة الروسية، في الساعة التاسعة من صباح أحد أيام كانون الأول المشحونة بالضباب والصقيع».. وبعد، فبالتأكيد لن «يلومني» أحد، عندما أجعل هذا الأسبوع احتفائية وداع لأيام من الفن والحنين، وأجعل من يوم 21 مارس القادم يوما ألوذ فيه بأطياف فعاليات «السعادة والشعر والكتاب» حتى أطمئن نفسي الأمارة بالشتاء، بوجود أطياف السعادة رغم غياب الحبيب، ومع الشعراء في احتفالهم بالقصيدة.. مرددا: «وليل العاشقين طويل..ليل الشتاء طويل..ليل الشتاء جميل..»!