الشعر ليس ملك قلّة تؤطّر وتنسج حوله عالمها، الشعر عالم واسع كان وما زال وسيظل للجميع، فبداخل كل منا شعر وشاعر! كتبت يوما لابني أحاول أن أصف حبي له: «أنت أجمل قصيدة خطّتها ريشة روحي على صفحات عمري الذي مضى وكل عمري الآتِي»، هل يجب أن تكون قصيدتي كلمات؟ ما القصيدة بالنسبة لكم؟ شكل؟ مصفوفة أحرف؟ قافية؟ وزن؟ هي لي صباح ماطر والضباب يدنو ببطء نحو يدي، ثم ساعدي ثم كلي لأختفي وأعبر إلى داخلي، هي صوت جدتي وهي تقصّ علينا تراثا مضى، كلمات تتناثر في الهواء لتلتقي مع عبير قهوتها ولغة حركات يديها، كل حركة...كل همسة... كل نفَس يغزل بيتا من أجمل قصيدة، فالقصيدة مشاعر، وهل يمكن للمرء أن يلمس المشاعر، من حب وخوف ورهبة وحنين؛ أوصاف ومسميات، لكن هل ما بداخلي من ألم أو فرح هو نفسه ما بداخل تلك الجالسة أمامي، أو ربما ذاك الذي يقطع الطريق على يميني؟! هل هي نفسها ما بداخل كل إنسان على وجه هذه الأرض؟ إن كانت القصيدة تختلف ليس فقط بالنسبة لصاحبها، بل أيضا لكل متلقّ، فكيف إذًا نستدير ونعمل على تصنيفها وكأننا نرتب أوراقا في درج مكتب؟!

تدور الحوارات ولا تنتهي عن نوع وشكل القصيدة، ولكل مدرسة من مدارس الأدب نسخة مختلفة تصور ماهية القصيدة، وأي خروج عن هذا الإطار أو ذاك يتم التصنيف والإلغاء! لدى مدارس الأدب نسخ مختلفة من الشعر، كل حسب إرشادات ومعايير وضعت من قبل متخصصين، تماما كما لدى مدارس هندسة البناء معايير، لكن في الأولى إن خرجت عن المعايير فلن ينهدّ بيت أو تسقط عمارة أو يتهاوى جسر، بينما في الثانية أي نقص أو خلل في المواصفات قد يؤدي إلى كارثة، يتشاركان في الفن والجمال، ولكن الفارق كبير بين جمال يسكن وجمال يعبر! هل حملت جسرا في كيانك تستعيده كلما شعرت بالحنين أو هزّك الشوق أو تمايلت روحُك طربًا على صدى خطواتك وأنت تسير عليه؟ ولكن القصيدة بأي شكل بنيت عليه، تخرج من الأسمنت ذاكرة ومن الفولاذ نسيانا، تجعل للحجر صوتا يخاطبك، يناجيك ويعاتبك!

ألم يكن الشعر يوما للجميع؟ تراث شفوي تتناقله الأجيال، كنوز من الأغاني الشعبية والملاحم تحكي وتصف وتسجّل، ولكن مع مرور الزمن جاء سجّانه ووضع حول حدائقه الأسوار والأشواك، تحول من السهولة إلى الغموض والرهبة، يخاف المرء أن يقترب منه حتى لا يوصم بالمتطفّل أو المتسلّق! ألم يكن القلب مسكنه، والوجدان محرّكه؟ ألم يكن بين أيدينا ومعنا، في لقاء أو في وحدة أو جلسة تأمّل؟ كنا نتجمل بأبجدية ونتعطّر بقصيدة، حتى ظهر مَن يعترض ومَن يرفض ومَن يتعالى علينا، فقط لأنه يرى الشعر بمرآة تعكس الشكل ولا ترى الروح! حين تتملك المرء مشاعر فيّاضة ويعبرّ عنها بشكل ما، هل تهمّ ماهية الشكل إن كانت تخرج من روح لتصل إلى قلب؟ حين ننتقي كتاب شعر من على أي رف، هل نختاره لبنائه أو شكله أو تراكيبه؟ نمد أيدينا ونتصفح فتقع أعيننا على ما يشدنا ويحرك فينا تلك المشاعر الدفينة؛ نحن بشر والجنس البشري إناء ينضح بالمشاعر والأحاسيس!

حين قال المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صَمَم، فعلا صدق! فالشعر بعده بات يُقرأ بأطراف الأصابع أو يجسّد بالحركات فتلامس المشاعر ويتم الاتصال الروحي ما بين مرسل ومستقبل! شاهدت مؤخرا مقطعا على اليوتوب للمخرج ماجد العيسى وأداء ريم المرشد لقصيدة كتبتها الشاعرة نورة الحوشان بعنوان «يا عين هلّي»، لن أتحدث هنا عن جمال العمل وروعته، ما أريده هنا هو أن أركز على نوعية الفن الذي قدّم فيه العمل؛ الشعر الحركي، مجال حديث خاص بالصمّ انتشر في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، إنه تحويل القافية الصوتية إلى قافية بصرية، أداء لفن مذهل وفعّال يصل بسلاسة إلى الجميع؛ إلقاء بلا صوت، ولكن بكل أنواع التأثير! ترى هل يتم اختيار القصائد بناء على جمالها أم شكلها؟!

إذًا ما الذي يُعرّف القصيدة؟ ما الذي يُجمّلها؟ كيف ومتى تؤثر؟ كلها أسئلة مررت بها خلال إبحاري في عالم القصائد، ولهذا دائما ما أعود إليها بأي شكل وبأي تركيبة، وأقطف وأتذوق وأبحر وأحلّق، لذلك بتّ أبتعد أكثر فأكثر عن السؤال لأستمتع بالرحلة، فما عدت راغبة في محاولة البحث عن الإجابة! لنحرّر القصيدة من أي تعريف حتى لا نقيدها بضيق الألفاظ والمفاهيم، ولد الشعر حرا وما القصيدة إلا ابنة لثقافات ولتراث شعوب مختلفة منذ بدء التاريخ، فكيف أُطلق على عمل قصيدة في لغة، وأستدير وأجرّدها في لغة أخرى؟! كيف أتسامح مع انطلاقها في لغة، وأصرّ على تقييدها في أخرى؟! وكيف أعترف بعبقرية شاعر هنا، وأسحبها من مثيله في لغة أخرى؟!

إذًا حتى نعيد للقصيدة مجدها بين العامّة حيث كانت انطلاقتها الأولى، وحتى نقتلعها من بين قيود الخاصة... لنقرأ! نعم لنقرأ القصيدة بأي شكل هي عليه، وكلما صادفت حوارا عن ماهية القصيدة لا تدخل ولا تشوش تفكيرك، فقط أشر إلى قصيدة واقرأها أو اعرضها عليهم، وقل: عن ماهية القصيدة تسألون؟ حسنا، هذه قصيدة وإليكم ما تفعله بي، ليذكر كلّ كيف لامسته، ومن أين دخلت إليه، لنصغِ إلى بعضنا بعضا ونتعلم؛ لننظر إليها معا، هل انتهينا؟ كلا، دعونا لا نتوقف هنا، هاكم قصيدة أخرى، ولنبحر مرة أخرى ثم أخرى ثم أخرى! إن القصيدة وجدت لتزيّن الروح، فليزرع كل منا حديقته ويزيّنها بدلا من انتظار أن يُعرّفها لنا الآخرون حتى نقنع أنفسنا بأننا نستمتع!