أصدرت منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة على لسان المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بيانا عن «الحرب على الأطفال في سورية»، والذي جاء على خلفية التقارير التي لم يعد بالإمكان تجاهلها عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى بين أطفال الغوطة الشرقية ودمشق.
تم تداول البيان على نطاق واسع في الإعلام العالمي، ربما أكثر من كل بيانات المنظمة السابقة. لم يتم تداول البيان للحقائق التي كشفها ولا للمطالب التي وجهها للأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو حتى شعوب العالم الحر، بالتدخل لإيقاف المجزرة التي تبث على الهواء مباشرة، حيث لم يعد مرتكبو الجرائم يبذلون أي جهد لإخفائها أو حتى إنكارها، بل لمضمونه الفارغ!
البيان الفارغ، احتوى كلمات قليلة تفسر هذا الفراغ، نصها الحرفي يقول «ليس هنالك كلمات بإمكانها أن تنصف الأطفال القتلى وأمهاتهم وآباءَهم وأحباءَهم»! وتلا هذه الجملة أحد عشر سطراً فارغاً، ثم ملاحظة للمحررين خارج النص يؤكدون فيها -للمحررين هذه المرة- أنهم لم يعد لديهم كلمات «لوصف معاناة الأطفال وحدة غضبنا»، واختتموا الملاحظة الموجهة للمحررين بتساؤل فلسفي عميق «هل لا يزال لدى أولئك الذين يلحقون الأذى كلمات لتبرير أعمالهم الوحشية؟!» علّ المحررين يساعدونهم في الإجابة.
أعتقد أن بقية منظمات الأمم المتحدة أيضا غاضبة، حتى لو لم يغضبوا بسبب المجزرة التي يشاهدونها مثل الجميع، فهم غاضبون بالتأكيد تضامنا مع زملائهم في اليونيسيف الذين لم يعد لديهم كلمات! فهذه حادثة فريدة تستدعي الغضب فعلا، أي أن تفقد منظمة النطق! مجلس الأمن نفسه، حيث يدار النظام الدولي، غاضب أيضاً. ربما ليس جميعه فبعض أعضائه هم ممن «يلحقون الأذى»، لكنهم أيضا لم يعد لديهم كلمات لتبرير أعمالهم الوحشية، فمرروا قرارا يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وإدخال الغذاء والدواء لمن هم تحت المجزرة. لكن «الأشرار» لم يلتزموا بالقرار الذي وافقوا عليه فقط لفقدانهم الكلمات التي تبرر أفعالهم الوحشية.
يشكل هذا البيان ذروة في نفاق العالم؛ نفاق النظام الدولي، النظام العالمي الجديد والقديم، والمجتمع الدولي كذلك! الذي واجهته المنظمات الدولية الإنسانية، سواء كانت حكومية أو شبه حكومية أو غير حكومية. الضجة التي أحدثها البيان والأسى الذي خلفه، جعل الجميع يشعرون بأنهم قاموا بما عليهم وأراحوا ضمائرهم وضمائر شعوبهم الحرة التي ربما لا تستطيع النوم وهي تشاهد شعبا يباد، في الحقبة التي استقرت فيها الحضارة الإنسانية التي يقودونها على تجريم العنف الفردي والجماعي، وإقرار مبدأ التدخل الإنساني حين يتعرض شعب من الشعوب للإبادة من طغمته الحاكمة، متجاوزين المفهوم التقليدي لسيادة الدول التي حصنت المجرمين لقرون عديدة. لم تبتكر الشعوب المسحوقة مبدأ التدخل الإنساني، فهي لا تمتلك القدرة على ذلك، ولا دول العالم المنكوب التي وقفت ضده دائما، لأن الدولة في عموم العالم المنكوب هي الحاكم، وهو لا يوافق على تقييد قدرته أو حتى رغبته في الفتك بشعبه كما يشاء، بل من نادى به الغرب الذي وصل في العقود الماضية عيشاً وقوانين ورؤية للعالم لمرحلة صار فيها ضميره حساسا تجاه جرائم الإبادة والتطهير العرقي أو الديني، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية، فتبنى بهذه الصيغة أو تلك مبدأ التدخل الإنساني، الذي عرفه لاسّا أوبنهايم (Lassa Oppenheim, 1858 -1919) بأنه استخدام «القوة باسم الإنسانية لوقف ما درجت عليه دولة ما من اضطهاد لرعاياها وارتكابها لأعمال وحشية وقاسية ضدهم يهتز لها ضمير البشرية الأمر الذي يسوّغ التدخل قانونياً لوقف تلك الأعمال».
بل إنك ترى في الأدبيات السياسية الغربية؛ ليس فقط تلك التي كتبها المفكرون بل الساسة أيضاً، نقداً حاداً وندماً يصل حد البكاء لتركهم شعوباً تواجه الموت عزلاء، وتشكل مجازر حرب البوسنة ومذبحة رواندا علامة أساسية في هذا النقد الحاد.
وعند الحديث عن مذبحة رواندا هناك ما يشبه الإجماع على أنها حدثت في غفلة من العالم، إذ كانت الفترة قصيرة! حيث أبيد ما يقارب المليون شخص خلال مئة يوم! ولم يكن هناك بث للمذابح على الهواء مباشرة، فكأن العالم لم يعرف بهذه المذبحة إلا بعد نهايتها في يوليو من عام 1994، حيث انتهت إحدى المذابح الكبرى في التاريخ البشري القديم والحديث. ومنذ ذلك الحين تجد الغرب – محقا - في مناهجه الدراسية وأدبياته يندب هؤلاء الضحايا الأبرياء الذين قتلوا بدم بارد دون أن يتدخلوا، معلنين أن هذا لن يحدث أبداً مرة أخرى.
ويمكننا تقدير هذا الندم والبكاء، لو لم ترتكب مذبحة سربرينيتسا في يوليو من عام 1995 أي بعد عام بالضبط من وجع الضمير الغربي وآلامه المبرحة! هذه المرة لم يستطع العالم الحر ولا نظامه الدولي الادعاء بأنه تفاجأ أو لم يكن على علم بها فقد كانت المدينة مصنفة «منطقة أمنة» وتحت حماية قوات الأمم المتحدة، ولذلك قام المقاتلون البوسنيون بتسليم أسلحتهم! الكتيبة الهولندية التي كانت المدينة تحت حمايتها أخرجت السكان الذين لجؤوا إلى معسكرها ليواجهوا موتهم على مقربة منها ولم يفعلوا شيئاً! ربما لم يجدوا الكلمات التي تواجه المذبحة. ربما وجد «الأشرار» الذين ارتكبوا المذبحة الكلمات التي بررت فعلهم الوحشي!
هكذا يصبح مفهوما بيان اليونيسيف الفارغ الذي لم يجد الكلمات ليسمي «أولئك الذين يلحقون الأذى» بالأطفال، ولا يستطيعون تبرير أفعالهم الوحشية! والتي اقتصر البيان على وصفها بالأذى. فالبيان الذي يتألم لموت الأطفال ولا يجد الكلمات لإنصافهم يجعل القارئ الغربي يعتقد أن هؤلاء الأطفال «لحقهم الأذى» من هواء مسموم أطلقته كائنات خفيّة شريرة لا قدرة لهم على تحديدها. إذ إن توصيف الجريمة وتحديد المجرم يحتم على النظام الدولي التحرك لإيقافها، ويحتم على المجتمع الحر إجبار حكوماته على التدخل لإيقاف المذبحة كي لا تتزايد أوجاع ضميره التي ما زال يعاني منها من المذابح السابقة. لكن حسابات المصالح السياسية لم تنته ولم تقرر الدول التي تقود النظام الدولي، أن الوقت قد حان لإنهاء المذبحة، لأنهم لم يتفقوا على الحصص بعد، لذلك كان يجب أن يصدروا بيانا فارغاً.
هناك مسألة أساسية أخرى تخص عمل المنظمات الدولية التي لا تريد تحديد المجرم في جريمة يشهدها العالم، فوفقا لإجراءات الأمم المتحدة فهذه المنظمات لا تستطيع تقديم الإغاثة ولا العون لشعب يتعرض للأعمال الوحشية إلا بموافقة حكومة البلد التي تقوم بهذه الأعمال عادة! هكذا بررت منظمات الأمم المتحدة تسليمها للمعونات التي تجمعها من المجتمع الدولي لإغاثة شعب تحت الإبادة والتجويع لمنظمات أنشأها النظام الذي يباشر هذه الإبادة، وكشف الإعلام الغربي نفسه الصفقات هائلة الحجم بين نظام البراميلي ومقربين منه وهذه المنظمات!
إذًا في حال عدم موافقته على عملهم، سيتقلص حجم الوظائف التي خلقتها المحنة السورية والتي يقبض موظفون غربيون بسببها رواتب ضخمة ليصدروا بيانات فارغة، وليشاهدوا عودة قوافل المساعدات بصمت لأن «الذين يلحقون الأذى» لم يسمحوا لهم بإغاثة شعب يموت أمام العالم.
الحصول على الوظيفة في الغرب أمر ليس هيناً هذا يعرفه الجميع، لذلك مثل كل الموظفين فإن الهم الأساسي لموظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية هو الحفاظ على وظائفهم، من رئيس المنظمة إلى حارس مخزن الأدوية! ماذا سيفعلون إذا كان قتل الشعوب وحصارها وجوعها ونجاتها هي وسائل خلق هذه الوظائف واستمرارها! إن خسارة وظيفة أممية براتب ضخم خلقتها محنة شعب ما تبدو أكثر أهمية من السكان! فالسوريون -وهذه حقيقة علمية يعرفها الموظفون الدوليون- لديهم معدل تكاثر عال، وهم بالتالي قادرون على تعويض قتلاهم، لكن الوظائف تتقلص في سوق العمل الغربي! إنهم كما ترون مجبرون على الصمت أو إصدار بيانات فارغة لا تخدش هذا الصمت.
نحن الذين نرى شعبنا يذبح على الهواء مباشرة، أمام العالم الحر والمتحضر، المكتفي بإصدار بيانات فارغة، لا نجد الكلمات حقاً ليس لوصف بشاعة هذه المجزرة الرهيبة، بل تلك التي تصف نفاق العالم المتحضر والحر.