مستحيل أن يعيش الإنسان السوي منعزلا عن غيره؛ وإلا سيكون خارجا عن تعريفات المتخصصين، التي تقول إن الإنسان (كائن اجتماعي)، وإنه (مدني بالطبع)؛ وكما يحتاج الإنسان إلى الناس، فإن الناس يحتاجون إليه أيضا، وهذه من سنن الحياة، ومن التفاعل الذي لا يمكن أن ينكره أحد، ومن التأكيد على السببية التي جاء ذكرها في قول الله تعالى: {يا أيها الناس إِنا خلقناكم مِّن ذكر وأنثى? وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا..}..

من أهم أنواع التواصل بين الناس، التواصل المعرفي بين تاريخهم القديم والجديد؛ فالقديم الماضي وإن كان قد انقضى، إلا أن بصماته، وبدون جدال، تؤثر في الحاضر، سواء كان الماضي ناصع البياض، أو كان العكس، والأذكياء هم الذين يحافظون على مواريثهم، ولا يبددونها أبدا، خاصة أن الكل غير منكر لقضية أن الحياة أخذ وعطاء، وأنها ميراث لكل البشر، وأن في الماضي كثيرا من العناصر التي يمكن أن تدفع الناس إلى التقدم والرقي، ولا ينبغي أن نضرب صفحا عنه، أو أن نتخذ موقفا عدائيا منه..

التواصل المذكور سلفا؛ يخرج منه الاستسلام والانصياع له، أو أخذه على علاته، بكل ما فيه من غث وسمين؛ فالتفكير النقدي مطلوب، والمحاكاة لمجرد المحاكاة ليست هي المقصودة أبدا؛ وهنا أعيد المهتم بهذا الموضوع ـ ولا يضيرني ذلك ـ إلى كتاب لم يأخذ حقه كثيرا، وهو (قيم من التراث) لمؤلفه الدكتور زكي نجيب محمود؛ أحد أهم وأبرز الناجحين في تقديم الأفكار العسيرة على الفهم، من خلال العبارات السلسة البسيطة، ومن أهم ما ذكره في ثناياه: «الولد إذا أراد أن يحيا على نهج والده، فهو لا يطالب أن تجيء المحاكاة قولا بقول، وفعلا بفعل، فذلك في منطق الحياة ضرب من المحال، فشجرة الورد تجيء على صورة شجرة الورد التي سبقتها، لكنها لا تجيء مطابقة لها مطابقة كاملة في فروعها وأوراقها وورودها..»؛ وهذا ـ عندي ـ لا يعني الانزعاج من مراجعة ما مضى، من أجل إزالة أي سبب للقطيعة والجفوة، التي قد يتصورها من يظن أن التمسك بالماضي سبب تخلفنا، أو من ينعت الماضي بعبارات من جنس هذه العبارات القاسية..

أختم مقالي بذكر أن الماضي، وتراث الماضي، وموروثاته ليست خيرا محضا، وليست شرا كاملا، والتنقية مما يضر مطلوبة، وتعزيز ما ينفع أمر ضروري، والحاضر والمعاصرة أيضا ليست شرا محضا، أو خيرا كاملا، ومن أبسط حقوق أي إنسان رفض غير الملائم له، وما يظن أنه سيعود عليه بالخسارة، أما الرفض لمجرد الرفض، فهو اعتزال للحياة، التي تسير بسرعات لا أظن أن أحدا منا كان يتخيلها، ولا بد لعقولنا أن تتحول من النمطية المتأثرة بالتقليد والفكر الثابت وغيره، إلى التجديد الموزون؛ فالمشكلات التي صادفت أسلافنا سابقا، ليست هي نفس المشكلات التي تصادفنا اليوم، والمسائل التي ينبغي أن ننشغل بها اليوم مختلفة عن تلك المسائل التي انشغل الأقدمون بها، وبغير ذلك ستضيع عقولنا في قضايا قديمة، لا طائل من ورائها اليوم، من جنس تلك القضايا الدينية، التي تضج منها العقول، بين الفترة والفترة.