في محاولة للردّ على تصاعد الانتقادات الموجهة إلى النظام الإيراني على وقع تدخُّلاته الخارجية في دول المنطقة، تحديدا سورية، صرَّح محسن رضائي، أمين عام مجلس تشخيص مصلحة النظام، بأن «إيران أنفقت 22 مليار دولار في سورية، وسوف تأخذ أضعاف ما أنفقته على نظام الأسد». ومن الواضح أن هذا التصريح وغيره من التصريحات التي أدلى بها بعض رموز النظام مؤخَّرًا عكست شعور النظام الإيراني بالانزعاج من تصاعد وتيرة الاستياء الشعبي، جَرَّاء التدخُّلات الخارجية لقواته المسلَّحة، وفي مقدمتها الحرس الثوري وغيره من الميليشيات التي يمولها النظام ويدعمها، لا سيما على الساحة السورية.
بداية، لا يتناسب الرقم الذي تَحدَّث عنه رضائي - وإن لم يكُن قليلًا- مع الأرقام المتداولة بشأن حجم الإنفاق الإيراني في سورية، إذ يبدو هذا الرقم أقلّ من الأرقام التي رصدتها جهات دولية وإقليمية مختلفة، فالأمم المتحدة مثلًا - حسب جيسي شاهين المتحدثة باسم ستيفان دي ميستورا، المبعوث الدولي إلى سورية- تقدر تكلفة التدخُّل العسكري الإيراني في سورية بما يقارب 36 مليار دولار، بمعدل 6 مليارات دولار سنويًّا منذ عام 2012، وهو الرقم الذي يعادل نصف الدعم السنوي للأسعار الذي تقدِّمه الحكومة الإيرانية، والمبلغ إجمالًا يساوي ثلاثة أضعاف الميزانية الدفاعية السنوية المعلنة لإيران، ناهيك بالتكلفة البشرية والإنسانية التي يتحمَّل نصيبًا منها أبناء الشعب الإيراني الذين ينخرطون في هذه الحرب.
على مدى سبع سنوات كان النظام الإيراني تحت شعارات حماية المقدَّسات والدفاع عن المراقد ونصرة المستضعفين، فضلًا عن حماية الأمن القومي والدفاع عن إيران خارج الحدود على خطوط قتالية متقدمة، ومواجهة الإرهاب، يشرعن داخليا دوره في سورية، بل ويحشد المقاتلين ويسلِّح الميليشيات إيديولوجيا وعسكريا لخوض غمار معاركه التي كانت في حقيقتها أبعد ما تكون عن حماية ما هو مقدَّس، وأبعد ما تكون عن الدفاع عن المواطن الإيراني، فما جرى في سورية لم يكُن سوى مقتلة كبرى لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب العالمية الثانية، وهى مقتلة تَحمَّل المواطن الإيراني من موارده وثرواته جزءًا من تكلفتها الفعلية.
لا شكّ أن النظام الإيراني فوَّت على شعبه فرصتين حقيقيتين للتنمية، في ظلّ أوضاع اقتصادية شديدة البؤس، ومعاناة تركت خلفها ما يقارب 30 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، وأغلبية تعاني تَدَنِّي مستوى المعيشة وسوء الخدمات. الفرصة الأولى هي إهدار الثروات الوطنية في مغامرات خارجية أنفق عليها النظام مليارات الدولارات، والثانية هي إهدار فرصة اقتصادية أُتِيحَت بعد توقيع الاتِّفاق النووي، إذ حرم النظام شعبه، نتيجة الإصرار على سلوكه الإقليمي، من الاستفادة من الأرصدة المجمَّدة التي أُفرِجَ عنها، وكذلك من النتائج الاقتصادية المتوقعة حال التزامه بنَصّ الاتِّفاق وروحه، فضلًا عن ضياع فرص إدماج إيران اقتصاديا وماليا ورفع العقوبات الدولية عنها، ومن ثم فتح المجال أمام الاستثمارات وتطوير القطاعات التي انهارت. هي خير مثال على إضرار خيارات النظام بمصالح مواطنيه، بل وبحياتهم.
في الواقع لم تكُن الساحة السورية ميدانًا لاستنزاف موارد إيران المادية والبشرية فحسب، بل كانت على المستوى الخارجي فاضحة لإيران، إذ تراجعت صورتها في المنطقة والعالم، كما كانت كاشفة لمدى تراجع شعبية النظام وتآكلها، إذ لم يتوقع النظام الإيراني في ظلّ ما يدَّعيه من انتصارات عسكرية في دول الجوار وادِّعائه السيطرة على أربع عواصم عربية، أن تخرج المظاهرات في الداخل نهاية عام 2017 ومطلع عام 2018، لتعبِّر عن غضبها من هذا الدور، رافعةً شعارات «انسحبوا من سورية وفكِّروا فينا»، وبدا أن ما يظنه النظام انتصارًا في الخارج هو في حقيقته هزيمة داخلية أبرز صورها اتِّساع نطاق عدم الرضا الشعبي عن هذا الدور وهذه التدخُّلات.
الحقيقة أن الحديث عن أن إيران ستجني ضعف ما أنفقته على النظام السوري، أو أنها ستغطي تكاليف التدخُّل من النِّفط والفوسفات والمعادن السورية، كما عبَّرَت تصريحات قيادات الحرس الثوري، قد يُعَدّ محض محاولة لاحتواء الغضب الشعبي من المغامرات الخارجية للنظام، لأن تحصيل مكاسب اقتصادية في سورية يبدو أمرًا تحكمه اعتبارات متعددة، بدايةً لأن الصراع لا يزال قائمًا والساحة السورية تعاني عدم استقرار ولا تسمح بالأنشطة الاقتصادية والمشروعات العملاقة، لهذا لا تزال العقود التي أبرمتها إيران في سورية مجرَّد حبر على ورق. وثانيًا لأن مستقبل بشار الأسد الذي تعوِّل إيران على بقائه حليفًا حتى اللحظة لا يزال غامضًا رغم أن موقعه تَعزَّز منذ التدخُّل الروسي عسكريًّا على خط الأزمة، ومن جهة ثالثة لا تزال سورية ساحة تستنزف موارد إيران بجانب ساحات إقليمية أخرى، وهو الأمر الذي انعكس على رفع ميزانية الدفاع الإيرانية خلال العام الأخير بمقدار 128% إلى جانب ذلك فإن قوى دولية رئيسية، مثل روسيا، لديها نفوذها في سورية، وهي لن تسمح لإيران بتحويل وجودها العسكري إلى نفوذ اقتصادي يفوق دورها، ناهيك عن أن النظام السوري ذاته لديه تَخوُّف من اتساع نطاق الدور الاقتصادي الإيراني وتأثيره في المستقبل على استقلالية القرار السوري، ومن ثم يفضِّل النظام السوري التعاون مع روسيا والصين كشريكَين اقتصاديَّين.
والمفارقة أنه على الرغم من أن رضائي يَعِدُ بأن إيران ستعوِّض ما أنفقته في سورية، فإنه في اللقاء نفسه يقول: «يؤسفني أن أقول إننا حاضرون عسكريًّا هناك، ولكن صناعتنا واقتصادنا ليس لهما أي وجود». كيف يمكن الحديث بعد هذا عن تعويض ما أُنفِقَ، إذ لم تكُن مثل تلك التصريحات إلا محاولات لتسكين الغضب الشعبي واللعب على عامل الوقت لتهدئة القطاعات الشعبية؟ لكن ما لا يدركه النظام أن المواطن العادي في إيران أصبح واعيًا بأبعاد هذا الدور الخارجي في ظلّ اطِّلاعه على وسائل إعلامية مستقلة ومحايدة بعيدًا عن الإعلام الرسمي الموجَّه التابع للنظام، كما أن غضبه يتصاعد لأن هذا التدخُّل الذي لا أفق له هو في حقيقته خصم من نصيبه من الثروة الوطنية، وجرأة في توظيف موارده في غير محلها، بينما معاناته تستمرّ وتتفاقم.