الأسئلة هي مفاتيح البحث، وهي أقفاله أيضا؛ فإن كانت أسئلة عميقة وجريئة، استطاع الباحث الوصول إلى نتائج جديدة، وبذا تكون الأسئلة مفاتيح، وإن كانت ضعيفة ومتكلسة ومكررة، لم يزد على ما وصل إليه السابقون، وبذا تكون أقفالا، ومن خلال الأنموذج أو المثال الآتي تتضح الفكرة:
من القضايا الأدبية/ الثقافية غير المحسومة، قضية لغة الشعر العربي القديم، وأخصّ منه الجاهلي الذي وصل أكثره إلينا بلغة بدوية خالصة، وكأنه لا يوجد في الحواضر العربية شعر أو شعراء!
هذه القضية تحتاج إلى قراءة جديدة تبحث في الأسباب بحثاً عميقاً يتجاهل الأحكام القالبية المدرسية التي سادت ولم تبد، والقراءة في هذا الجانب تحتاج إلى عقل متسائل وجريء كعقل طه حسين الذي سطّر به كتابه: «في الأدب الجاهلي»، وناله بعد صدوره ما ناله من التشنيع، على الرغم من أنه لم يقترف سوى الأسئلة، ووضْع إجابات احتمالية، ثم البناء عليها، وعلى الرغم من ذلك فقد صارت الردود عليه واجبات منهجية في كليات الآداب حتى الآن، وأتخيل لو أن طه حسين أصدر كتابه في زماننا هذا، لتصدر «هاشتاق» الشتائم الخاصة به الترند أسبوعاً، ولشارك في الهاشتاق البَر والفاجر، والعالم والجاهل، ومن لم يقرأ في حياته قصيدة جاهلية كاملة، وربما شارك فيه «إعلامي مندفع» يظن أن زهير بن أبي سلمى من شعراء عصر بني العباس.
بالعودة إلى القضية، فإنني في كل مرةٍ أقرأ فيها شعراً جاهلياً، أو أُموياً، أجدني أمام معجمٍ بدوي خالص، وكلّما حاولتُ إيجاد معجم حضري، وجدته – بالمقارنة مع المعجم البدوي – لا يمثّل إلا نسبة قليلة لا تكادُ تُرى، فضلا عن أن تُذكر، وليس ذلك محصوراً في شعر أهل البداوة، بل إنه يمتدّ إلى شعراء المدن والأمصار؛ مما يعني أن اللغة البدوية هي أنموذج الاحتذاء، برغم التحضر وتحولات الثقافة العربيّة، ولعلّ هذا هو ما جعل النقّاد القدماء يرون القدرة الشعريّة في احتذاء الشعر البدوي، ويفضلون شعراء البدو على شعراء الحضر.
يقول الجاحظ: «والقضيّة التي لا أحتشم منها، ولا أهابُ الخصومة فيها: أن عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب، أشعر من [عامة] شعراء الأمصار والقرى، من المولّدة والنابتة. وليس ذلك بواجب لهم في كلِّ ما قالوه».
فالجاحظ يخضع للفكرة النقديّة التقليديّة التي تفضل البدوَ وشعرَهم، وهو حتى حين يحترز بالاستثناء، يعود إلى تفضيل شعر البدو، مؤكداً على أن مقلديهم من غيرهم، يعجزون عن اللحاق بأشعارهم، فيقول: «ونقول: إنَّ الفرق بين المولد والأعرابي: أنَّ المولَّد يقول بنشاطه وجميع باله الأبياتَ اللاحقةَ بأشعار أهل البدو، فإذا أمعن انحلَّت قوّته واضطربَ كلامه».
وإن يكن الجاحظ لم يصرّح بأنه يقصد اللغة والتركيب، فأحسب أنّه يريد ذلك، ويؤكد صراحةً على تفضيل لغة البداوة.
وحين تظهر ألفاظ بدوية قليلة عند بعض شعراء الحواضر، وأخصّ شعراء الحواضر المتصلة اتصالاً وثيقاً بالبوادي، كشعراء اليمامة، وبعض المدن الحجازيّة المتاخمة للبوادي، فإن ذلك يعني أنهم يتكلفونها تكلّفا؛ بهدف استدرار إعجاب النقّاد، وكيلا تلين ألسنتهم، كما لان لسان عدي بن زيد الذي قال عنه ابن سلام: «كان يسكن الحيرة ويُراكن الرّيف، فلان لسانه وسهل منطقه، فَحُمِلَ عليه شيء كثير، وتخليصه شديد».
وأفهمُ من كلام ابن سلاّم أن السهولة اللغوية مدعاة للنحل، فيما تحقق الغرابة الصعوبة التي تحفظ القول لأهله.
وأمام تساؤلات متعدّدة، عن غياب لغة أهل الحواضر، أو قلّة ألفاظ معجمها في الشعر العربي القديم، أقف وقفات تمثّل ملحوظات عامة ناتجة عن قراءات عابرة كان همّها البحث في موضوعات نقدية ولغوية أخرى، لكن هذه القضية كانت تطل برأسها مع كل قراءة، ومن هذه الوقفات التي تمثل مفاتيح بحث لمن كانت له همة وقدرة واهتمام:
أولا: أنَّ أكثر الألفاظ البدوية موجودة في القصائد التي تتعلق بفعلي: تربية الإبل، وصيد الوحش، ثم في وصف الخيل وأدوات القتال بدرجات أقل، وهو ما وجد ـ أيضاً ـ بوضوح في المقدمات الطللية.
ثانيا: أن بداوة اللغة تمتد إلى بعض الحواضر العربية المتصلة بالبيئة البدويّة، لكنها تقل مع مرور الوقت لتظهر في شكل لغوي جديد عند كبار شعراء عصر بني أميّة، وبخاصة عند ذي الرّمّة.
ثالثاً: تكاد ظاهرة بداوة اللغة تختفي عند بعض شعراء عصر صدر الإسلام، وشعراء عصر بني أميّة الذين وصفوا الواقع الاجتماعي الجديد في البصرة والكوفة.
إن كل ملحوظة من هذه الملحوظات، صالحة لإنجاز رسالة ماجستير، فهل من عقلٍ يأمر ساعداً بأن تشمّر؟ على ألا يسلّم عقل صاحبها بالأحكام المكرّسة التي بات الإقرار بها، والإيمان بصحتها - مع الفرض والتكرار - شبيهين بالعقيدة التي يكفر المشكك في ثوابتها، وتلك نتيجة بدهية للتلقي المجرد، والتلقين الموجِّه، وهما آفتان من آفاتٍ كثيرة تحيط بطرائق التعليم في عالمنا العربي.