لا شك أن البطالة مشكلة عالمية تؤرق حكومات جل الدول إن لم يكن كلها. وهذه القضية الجوهرية تطل برأسها في معظم القضايا الأخرى كالطلاق والجريمة والمخدرات والحالات النفسية والاكتئاب، بل ونجدها أحد الدوافع التي تحرك مشاعر العنصرية والعداء ضد العمال الأجانب والمهاجرين حتى في الدول الصناعية الكبرى. والمملكة ليست بمنأى عنها رغم ثرواتها الهائلة وطاقاتها الشابة، فبحسب نشرة الهيئة العامة للإحصاء الأخيرة، فإن نسبة البطالة في المملكة بلغت في الربع الأخير من العام الماضي 12.8%.
ولأنه من دون وظيفة لا يستطيع المرء أن يعيش حياة طبيعية كريمة، ولا أن ينشئ أسرة، فإن هذه المشكلة تستوجب اهتماماً كبيراً حفاظاً على أمن واستقرار المجتمع أولاً، ولتكون منطلقاً لنهضة وطنية شاملة ثانياً. والسعودة، بمعنى إحلال المواطن السعودي محل المقيم، هي سياسة بدأ العمل بها قبل عدة عقود في المملكة، ولها نظيراتها في دول مجلس التعاون الخليجي. فمن المشكلات التي قد تنفرد بها هذه الدول هي أنها تعاني من بطالة بين شبابها رغم أن عدد مواطنيها يعتبر منخفضاً بالمعيار العالمي، وفي الوقت نفسه لديها عدد كبير من المقيمين الذي يشكلون أكثر من نصف عدد السكان في بعض دولها. ومعظم هؤلاء تم استقدامهم بتأشيرات لأداء أعمال لم يعد من الصعب على المواطن الخليجي القيام بها كما في السابق. فلم تترك أبناء وطنك يعانون البطالة وتستقدم من الخارج خاصة في القطاع الخاص؟
سيأتيك الجواب سريعاً من بعض رجال الأعمال: عدم أهلية المواطن السعودي معرفياً نتيجة لضعف مخرجات التعليم! ولو سلّمناً جدلاً بهذه المقولة، فكيف يمكن تفسير أن الاستقدام يتم من دول أفقر وأحياناً أقل تطوراً من المملكة ومشكلات تعليمهم أكبر ومخرجاته أسوأ؟
إن وجود بعض الأنظمة التي تتيح لرب العمل أن يعطي رواتب متباينة بشكل كبير اعتماداً على الجنسية تسهم في هذا الخلل. فالتاجر سيفضل العمالة الأرخص والتي سيكون له تحكم كبير بمصيرها – كونه الكفيل - مقارنة بالمواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته.
ونتيجة للضغط الحكومي بخصوص السعودة، اضطر هؤلاء لتعيين السعوديين في الكثير من الوظائف، لا سيما في تلك التي تكون في الواجهة وفيها تفاعل مع الجمهور، مع أن الكثير من هذه الوظائف لا تتطلب شهادة جامعية، كالبيع والشراء وورش تصليح السيارات والبقالات والمحطات وموظفي الاستقبال، بالرغم من أن بطالة السعوديين والسعوديات في فئة الجامعيين، الذين لا مانع لدى الكثير منهم أن يعملوا في هذه الوظائف بشكل مبدئي لكنهم يطمحون للأفضل، ولمجالات يطبقون فيها ما تعلموه.
ولأن عملية الإحلال هذه لم تتم عن قناعة على ما يبدو، بل وتمت في أحيان كثيرة بشكل سريع وعشوائي، نتج عن ذلك أحياناً عدم رضا لدى الزبائن والعملاء، الذين وجدوا أنفسهم يتعاملون مع أشخاص لم يتم تأهيلهم بالشكل المطلوب لأداء وظيفتهم بشكل جيد، وهو من أقل حقوقهم على من وظفهم. والنتيجة أن البعض بات يتشكى من السعودة، والمشكلة ليست فيها وإنما في كيفية تطبيقها، خاصة مع إدخال عنصر جديد آخر للمعادلة وهو توظيف النساء.
المرأة بشكل عام ليس لها تاريخ في العمل في الفضاء العام وهذه الأماكن المفتوحة، فقد اقتصرت وظيفتها طويلاً على مجالات التعليم وبدرجة أقل الصحة والبنوك، ولذلك فإن السلبيات التي ظهرت منهن باتت ملاحظة بشكل أكبر. مع أن المرأة بطبعها ذكية ولديها قدرة على أداء العديد من المهام في وقت واحد، وتجيد الكلام، مما يجعلها مؤهلة للعمل خاصة في المحلات الخاصة بالملابس والمستلزمات النسائية.
على الصعيد الشخصي لي تجارب ممتازة جداً في التعامل مع البائعات السعوديات، خاصة العاملات في فروع الشركات الأجنبية، والتي من الواضح أنها بذلت جهداً في تدريبهن، بحيث بتُ لا أذهب إلا لفروع بعينها لأنني أعرف بأنني سأنال خدمة جيدة، وتجارب أخرى – مع الجنسين ومن جنسيات مختلفة - سيئة جداً، بسبب ضعف التدريب.
وإذا تركنا جانباً القطاعات السابقة، التي تعتبر رواتبها في أحسن حالاتها أو لا بأس بها، مع ساعات عمل طويلة نسبياً، وانتقلنا إلى الوظائف التي تطلب شهادة جامعية، وأحياناً معرفة بالبلد وأهله وعاداتهم وطباعهم، وذات الرواتب الممتازة والحوافز الجيدة مثل قطاعات: الدعاية والإعلان والعلاقات العامة والتسويق (مندوبو شركات الأدوية كمثال) والمحاسبة والهندسة وإدارة الجودة والتقنية والمستشارين، نجد المواطن شبه غائب عنها. ولا نجد ذلك الدفع الحكومي والزخم الإعلامي المصاحب لحملات سعودة سوق الخضار ومحلات الجوال وباعة الذهب وغيرها من المهن.
ومع زيادة الرسوم والضرائب على المقيمين، غادر كثير منهم وسيواصلون المغادرة، خاصة من ذوي الدخل المحدود، ممن لم تعد رواتبهم هنا مجدية لهم ولعوائلهم. بينما أصحاب الرواتب المرتفعة لا تشكل هذه التكاليف الجديدة مشكلة كبيرة بالنسبة لهم، وبالتالي لن يغادروا، ولن تصبح وظائفهم شاغرة للمواطن في القريب العاجل. بل إن من الغريب أن استصدار التأشيرات للاستقدام لا زال متواصلاً، فكأننا فقط نستبدل أناساً من الخارج بغيرهم!
تكاد البطالة تكون أم المشكلات على وزن أم المعارك، ولا بد من حلول جذرية لها، ولكن هذه الحلول تحتاج أن تكون مدروسة، بحيث تشمل الإحلال عن طريق السعودة من ناحية، وتوليد وظائف جديدة في قطاعات حيوية وعصرية من ناحية أخرى، فعدد السكان في ارتفاع والسوق الحالي لن يستوعب الأجيال الجديدة المتتالية حتى لو تمت سعودته بالكامل.
وبالنسبة للسعودة فلا بد أن يكون هناك انسجام بين ما يبحث عنه طالب العمل (الخريج) ومؤهلاته وبين الوظائف المستهدفة من هذه العملية، وأن يكون التدريب شرطاً أساسياً على كل منشأة، وإثبات الجدية والجدارة بعد ذلك هما المدخل للاستمرارية. لا يجب أن يشغل الوظيفة شخص فقط لأنه مواطن من دون تأهيل من قبل جهة العمل أولاً، ومن دون التزام منه لاحقاً. فأنت لن تسلم جسدك لمشرط جراح بناء على جنسيته دون أن تتأكد من شهادته وسمعته، وهذا الأمر ينبغي أن نطبقه على كافة القطاعات الأخرى إذا أردنا أن نحدث نقلة نوعية لبلادنا تأخذها للصف الأول بإذن الله.