هل من الضروري أن يكون لكل واحد منا رأي في كل موضوع أو قضية أو شأن يحدث في محيطنا؟ وهل هو أمر مقبول ألا يكون لدينا موقف من كل حدث أو شخص أو موقف تثيره المجاميع والحشود والإعلام ومن يفتتن بما يعرض؟

أجد نفسي في كثير من الأحيان أقف موقفا «بلا موقف» من العديد من المسائل التي يبدو أنها تثير اللغط والصراعات والتجاذبات بين الناس، فأسأل نفسي عن السبب الذي يجعلني لا أنجر للدخول في تلك المناكفات والنقاشات التي في غالب الحالات لا تنتهي إلا بانتصار طرف على حساب تصفية طرف آخر عن بكرة أبيه!

قناعتي تقول إنه ليس بالضرورة أن تكون كل النقاشات والاختلافات ذات نتائج حميدة، أو لنقل ذات نتائج مفيدة إلا إذا اعتبرناها جزءا من عملية التصفية بين طرفين، فالاختلافات التي ينهمك بها الناس تحليلا وتفنيدا ما هي في الحقيقة إلا أحداث عرضية يحاول المتخاصمون إصباغها على أنها مثال لحالة أكثر شمولا وأعمق معنى، بينما في الحقيقة تبقى للمراقب الهادئ مهاترات وإلهاء للناس بسذاجتهم وحبهم لـ«اللت والعجن».

البعض يعتقد بأنه لو لم يعبر عن رأيه في كل حديث فإنه بذلك سيتحول في نظر الناس إلى إنسان بلا رأي وقيمة، وينسى أن الآراء والمواقف تكون ذات قيمة عندما تكون صادرة عن قناعة متأصله نابعة من دراسة وتفكير عميقين، وأن الرأي الذي يصدر للعلن دون أن يكون مبنيا على أسس سيكون من السهل دحضه عندما يواجه الإنسان صاحب حجة.

السير في ركاب الجموع وإدمان التعليق بالرأي في كل صغيرة يتداولها الناس أصبحا اليوم مرضا، وعلى الرغم من أن لكل إنسان الحق في التعبير عن الرأي دون قيود واشتراطات، إلا أن الرادع الداخلي الذي يضبط الإنسان بمحدداته الشخصية المتأسسة على قناعاته الذاتية هو الضامن الذي يجعل الإنسان محترم الرأي أمام ذاته قبل أن يكون كذلك أمام الغير، والسعي نحو خلق موقف في كل شيء لا يعني ذلك أن الإنسان تمكن من خلق مكانة له بين الجموع، فقد يكون الرأي المختلق لإرضاء غرور المشاركة هو السبب الذي به يفقد ذلك الإنسان كل احترام لشخصه ولرأيه.

اليوم أجد نفسي محجما عن التعبير عن رأيي في كثير من الأمور، وذلك في الغالب لأني لا أرى فيما يعرض إلا مسرحا للتصفيات الفكرية، وليس ساحة لتلاقح الأفكار وبناء مشروع نهضوي يسعى لتعريف المجتمع بحقيقة المفاهيم الإنسانية الأساسية، ولأن الساحة أو المسرح اليوم قد تلوث بالعديد من الأوبئة من تسطيح وتخوين وتصفية واستدراج، فإن الحديث في كل شيء يزيد من احتمالية التصيد المغرض ويدخل الإنسان في غياهب الخطوط المتلونة التي لا زالت كذلك لكي تكون شاهدا على ذاك أو دليل إدانة على ذاك؟

لم أقتنع في حياتي بمقولة «إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب» أكثر من قناعتي بهذه المقولة الآن، ففي الوقت الذي تصبح فيه النقاشات حول المواضيع الجانبية هي العناوين الرئيسة، يكون من الأفضل انتظار الوقت الذي تخف فيه أتربة عواصف التسطيح ليصفى الجو مجددا لربيع العقل في بيئة أكثر تسامحا وقبولا للآخر.