عُقد مؤخرًا على مدار ثلاثة أيام مؤتمر ميونخ للأمن، الذي تحتضنه سنويًّا مدينة ميونخ الألمانية، وقد شارك فيه عديد من السياسيين من حول العالَم، ومن بين المشاركين وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ونظيره الإيرانيّ محمد جواد ظريف. كان ظريف ألقى كلمته قبل الجبير مباشرة، وقد أسهب في العزف على المظلومية وتقديم الدلائل على براءة إيران من التُّهَم التي توجِّهها إليها دول المنطقة والقوى الكبرى، وأن بلاده دولة تُستهدف دون أسباب، وأنها ضحية للمؤامرات الإقليمية والدولية، بل واتهم دول المنطقة بدعم داعش والقاعدة وغيرهما من الجماعات الإرهابية، وأن بلاده أنقذت المنطقة من هذه الشرور. استعرض ظريف أسلوبًا خطابيًّا قد تنطلي معظم نقاطه، خاصَّة التركيز على المظلومية، على غير المدركين لحقيقة النِّظام الإيرانيّ وسلوكه في المنطقة والعالَم منذ اختطاف الثورة في عام 1979. جدَّد السيد ظريف مقترَحًا كان قد طرحه العام الماضي، هو فتح قنوات حوار مع دول المنطقة على غرار مفاوضات مجموعة 5+1 حول البرنامج النووي الإيرانيّ، وقد أطلق ظريف على هذا المشروع اسم «منتدى الحوار الإقليمي»، مشددا على أن دول المنطقة أصَمَّت آذانها أمام هذا المقترح التعايشي. وتبدو الفكرة جذابة وجميلة، بل وتوجُّهًا محمودًا لانتشال المنطقة مِمَّا تعيشه من أزمات. لكن الإشكالية الوحيدة في كل ذلك أن إيران ليست فقط لم تثبت حسن النية، ولم تعدل سلوكها بعد الاتِّفاق النووي الذي يترنح حاليًّا، بل ازداد حجم تدخُّلاتها وإذكائها الطائفية والإرهاب في المنطقة، في حين أنها تقدِّم نفسها عبر التصريحات فقط كدولة أكثر براءةً من الذئب من دم يوسف. وبعد أن أنهى كلمته طُرح عديد من الأسئلة المباشرة، إلا أن ظريف مارس هواية المراوغة ولم يقدِّم إجابة صريحة واحدة على أي سؤال.
طوال كلمته ركَّز ظريف أيضًا على الهمز واللمز للمتحدث الذي سوف يصعد المنصة بعده، وأنه سوف يتَّهم إيران محرِّضًا الحضور على عدم الإصغاء إلى ما يقوله ذلك المتحدث حول إيران.
وبعد أن أنهى ظريف كلمته وغادر القاعة جاء دور وزير الخارجية السعوديّ، وقد بدأ بالتركيز على المنجزات السعودية التي تحققت خلال العامين الماضيين والإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وسياسة تمكين المرأة والاهتمام بالشباب والمشروعات الاقتصادية العملاقة التي أعلنت عنها الرياض، وكذلك التوجُّه نحو الاستثمار في الإنسان السعوديّ، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية ونحو ذلك. بعدها قدّم الجبير حقائق بالأرقام والتواريخ والوقائع عن طبيعة النِّظام الإيرانيّ، ابتداءً من عمليات الحرس الثوري في لبنان بداية الثمانينيات، ثم تنفيذ طهران عمليات إرهابية في عدة دول أوروبيَّة من بينها ألمانيا (برلين)، وفي أميركا اللاتينية (الأرجنتين) وشرقيّ السعوديَّة (أبراج الخبر)، وعدة أمثلة أخرى تكشف للحضور واقع إيران، وتزيل الغشاوة التي حاول ظريف وضعها على أعين الحضور قبل صعود الجبير.
وعن الجماعات الإرهابية شدَّد الجبير على حقيقة أن إيران استضافت -ولا تزال- قيادات تنظيم القاعدة الإرهابي، وأن كثيرًا من العمليات التي دعا التنظيم لتنفيذها ضدّ السعوديَّة كانت تصدر من شخصيات تستضيفها إيران على أراضيها، وكذلك تكشف رسائل أسامة بن لادن قوة العلاقة بين التنظيم والنِّظام الإيرانيّ. ولم يتجاهل الجبير واقع التدخُّلات الإيرانيَّة في الدول العربية، وخطورة ذلك على أمن واستقرار ومستقبل المنطقة. وعندما أنهى الجبير كلمته وجاء دور أسئلة الجمهور طرح أحد الحضور -ألماني من أصول إيرانيَّة وينتمي إلى حزب الخضر- سؤالًا عن مدى قبول الجبير للجلوس جنبًا إلى جنب مع ظريف في جلسات مؤتمر ميونخ للأمن للعام القادم، ويبدو أن السائل أراد إحراج الجبير، إلا أن إجابة الجبير كانت واضحة وصريحة، فأكَّد أن القضية ليست شخصيَّة، وقد سبق وجلس مع ظريف على طاولة واحدة في عدة مناسبات دولية، من بينها اجتماعات مؤتمر أصدقاء سورية في كل من نيويورك وفيينا، وليست القضية مصافحة أو تبادل تحايا، القضية تكمن في إمكانية تعديل طهران سلوكها في المنطقة وتوقفها عن دعم الإرهاب والطائفية، وتعديل دستورها الذي يشرعن التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول وعدم اعترافها بالمواطنة، بخاصَّة مواطنة الشيعة في دول المنطقة، وأنها تعتبرهم تابعين لها.
لقد قدم ظريف خطابًا يهدف إلى التأثير على العواطف والظهور بمظهر البراءة، وأن بلاده تتعرض للظلم وتشويه السمعة من دول العالَم كلها تقريبًا. وعندما تحدث عن أن دول المنطقة بأسرها تجاهلت مقترح بلاده حول الحوار الإقليمي، نسي ظريف أن إجماع دول المنطقة -كما يقول- على تجاهل المقترَح المذكور يكشف أن الإشكالية ليست في دول المنطقة بل
في إيران نفسها، التي تحاول التذاكي بمثل هذه الشعارات البرَّاقة وتظنّ أنها ستخدع من خلالها العالَم. القضية ليست دعوات حوار هدفها الاستهلاك الإعلامي، بل إثبات حسن النية وتحويل التصريحات إلى خطوات على أرض الواقع تثبت جدية النظام في تخلِّيه عن مشروعات تصدير الثورة وإشعال الطائفية وتجاهل سيادة الدول، والتحوُّل في نهاية المطاف من الثورة إلى الدولة، وما لم يتحقق ذلك فستستمرّ دول المنطقة في تجاهُل مقترحات الحكومة الإيرانيَّة التي سرعان ما تنسفها من الداخل الإيرانيّ أفعال الحرس الثوري والميليشيات التابعة له في إيران وخارجها.