لم تكد تمض أيام قلائل على اختتام مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل الذي أقيم خلال الفترة الماضية في منطقة صناهيد الدهناء، شرق العاصمة السعودية الرياض، برعاية وتشريف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ومتابعة مستمرة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وحضور داخلي ودولي عريض غصت به جنبات المكان وكادت تضيق بهم على سعتها، حتى انطلقت فعاليات المهرجان الوطني للثقافة والتراث «الجنادرية» في دورته 32 التي تشهد نجاحا منقطع النظير، وإقبالا جماهيريا غير مسبوق، ومشاركة دولية واسعة، للدرجة التي جعلت سفراء الدول الغربية والآسيوية والعربية يحرصون على زيارته، والتعرف على التراث السعودي الأصيل.

في ذات الوقت تستضيف الرياض حاليا فعاليات الملتقى السعودي لصناعة الاجتماعات، الذي يهدف إلى جعل المملكة مركزا جاذبا لفعاليات الأعمال الدولية، واستقطاب فعاليات الأعمال الدولية، حيث تم استعراض كيفية استقطاب فعاليات الأعمال الدولية إلى المملكة، والتركيز على الأدوات الجاذبة، وفقًا للمعايير الدولية. وفي منتصف الشهر المقبل، يرعى خادم الحرمين الشريفين حفظه الله فعاليات معرض الرياض للكتاب، في دورته الجديدة، بمشاركة 500 من دور العرض العربية والعالمية، وتشهد تنظيم أكثر من 80 فعالية ثقافية، لزيادة إثراء هذه الفعالية التي تعد من أكبر الفعاليات الثقافية في المملكة، والأكثر مبيعاً من بين كافة معارض الكتب التي تقام في الدول العربية.

هذه الأنشطة الثقافية المتلاحقة، التي تقام بصورة منتظمة في المملكة، ويتم تنظيمها وفق معايير عالمية، وتنفق عليها مبالغ مالية ضخمة، إضافة إلى مسابقات حفظ وتجويد القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وغيرها من الفعاليات الثقافية والأدبية الأخرى تؤكد حقيقة واحدة، هي أن السعودية اختارت الثقافة والأدب والإبداع رسلا لنقل حضارتها إلى العالم الخارجي، ووسيلة للتعبير عن مجتمعها المدني المتطور، وعكس الإنجازات الثقافية والاجتماعية الضخمة التي تحققت في ظرف زمني وجيز، للدرجة التي بات فيها صوت الأديب السعودي مسموعا بقوة في العالم الخارجي، لاسيما الدول العربية والإسلامية، وكذلك المثقفون والشعراء والنقاد، ولم يعد هؤلاء يغيبون عن أي فعالية عالمية، وباتت الدعوات تنهال بكثافة عليهم للمشاركة وإثراء الفعاليات التي تقام في الخارج.

ولا شك أن هذا التفاعل والنشاط المتواصل له آثار وانعكاسات إيجابية كبيرة تتجاوز حدود الثقافة والأدب، فإضافة إلى الدور الاقتصادي المعروف، فإنها تسهم في تنمية السياحة الداخلية، وعكس الوجه المشرق للمملكة، وتوضح ما تتمتع به بلادنا من بنية تحتية متكاملة، وإمكانات طبيعية هائلة، ومجتمع مدني متحضر، وتباين إيجابي في المناخ والبيئات الزراعية، ومناطق أثرية يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل ظهور الإسلام، وكل ذلك يدفع الآخرين إلى المجيء في العطلات الصيفية، بحيث تصبح بلادنا قبلة للسياح من كل الدول. كما أن هناك بعدا سياسيا آخر لتنظيم تلك الفعاليات، يتمثل في عكس الوجه المشرق لبلاد الحرمين، ومقدار النهضة التي تحققت خلال العقود الماضية، وفي ذات الوقت فإنها تتولى الرد بصورة حازمة على من لا زالوا يعيشون بأذهانهم في القرون الوسطى، ويروجون إلى اضطهاد النساء في المملكة، وغياب الحريات، إلى غير ذلك من الترهات التي لا زال يرددها بعض المغيبين في الغرب، الذين تأثروا بالدعاية السالبة، وطفقوا يرددونها كما الببغاوات، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التأكد، أما المنصفون – وهم كثر ولله الحمد – ومن بينهم ساسة ووزراء وقادة دول غربية وآسيوية تزامنت زياراتهم إلى السعودية مع تنظيم مثل هذه الفعاليات وشاركوا فيها، فقد تحدثوا عند رجوعهم إلى بلادهم عن دهشتهم لما شاهدوه في المملكة، هذا التوجه الحميد ينبغي أن يتواصل ويستمر ويزداد، وأن تشارك فيه كافة شرائح المجتمع ومنظماته المدنية، فالثقافة لم تعد مجرد وسيلة ترفيه واكتساب علوم، وليست ترفا نخبويا تمارسه الصفوة في منتدياتها وفضائياتها ومجلاتها، بل هي أهم أدوات الدبلوماسية الشعبية، ووسيلة فعالة في تحقيق التقارب بين الشعوب والمجتمعات، إضافة إلى أدوارها الأخرى التي تقوم بها على الصعيد المحلي، مثل تقوية اللحمة الداخلية، والارتقاء بالحس الوطني، وربط الأجيال الناشئة بمجتمعاتها وهويتها وعاداتها وتقاليدها، فأبناؤنا الذين يرتادون تلك المهرجانات، ويشاهدون بأعينهم تفاعل الآخرين معها وإعجابهم بما يرونه، ودهشتهم من الموروث الضخم الذي نمتلكه، لا شك أن الفخر سوف يملأ جوانبهم، ويحسون بالاعتزاز، مما يدفعهم للتمسك بهويتهم، والتفاني في خدمة بلادهم ورفعة شأنها.

إن كان من ملاحظة فهي أن هذه الجهود الضخمة لا زالت فعلا حكوميا صرفا، تقوم به الدولة وتبذل في سبيل إنجاحه جهودا ضخمة، فهناك حاجة إلى المزيد من تفاعل منظمات المجتمع المدني مع تلك الجهود، وأخذ زمام المبادرة لتنظيم فعاليات مشابهة، وهذا لا يعني أن تكف الدولة يدها عن دعم تلك الأنشطة، ماديا وتنظيميا، فتلك المنظمات لا زالت حديثة العهد. كما أن الشركات الكبرى والبنوك في بلادنا يفترض أن تقوم كنوع من المسؤولية الاجتماعية بالمشاركة في تلك الجهود، ودعم جهود المنظمات الأهلية، أو حتى المبادرة بتنظيم تلك الفعاليات، فالمسؤولية الاجتماعية لا تقف عند حد مساعدة مريض أو تنظيف أحد الأحياء - رغم أهمية تلك الأدوار وتقديرنا لها – إلا أن الدعم الذي يتم توجيهه إلى المجتمع يبقى أشد أثرا وأكبر فائدة.