تحولت ويكيبيديا منذ سنوات إلى أهم مصدر للمعرفة في العالم، وتسببت بقتل العديد من الموسوعات الكبرى، وتواجه الموسوعة أزمة صراع إيديولوجي في كافة اللغات حتى في نسختها الإنجليزية الأصلية، ولا بد من قراءتها ببصيرة ثاقبة رغم موضوعية كثير من مقالاتها، وخاصة في المقالات العلمية التي يشارك في كتابتها علماء ومختصون، وهو صراع ينبع من حجم التأثر، فالمقال الذي يتحدث عن (الإسلام) أو (السعودية) هو الأول في محركات البحث، ولم تكن الموسوعات التقليدية أفضل حالاً في المواضيع الفكرية خاصة، فهي غالباً إما مسيسة أو تنطلق من خلال الإطار الثقافي.
كتاب ويكيبيديا في أغلبهم متطوعون ومبادرون ويسمح لهم بالحصول على مهام إدارية حسب نشاطهم، غير أنهم يظلون كتابا ذوي منطلقات إيديولوجية وثقافية متباينة، وهناك وسائل عديدة للتحقق من دقة أو صحة المقال ومتابعة الصراع الدائر حوله. سواء أكان ذلك من خلال طريقة قراءة المصادر أو المقارنة مع نسخ المقال في اللغات الأخرى، أو من خلال البصيرة القائمة على الشك والتساؤل (ماذا، لماذا، كيف..)، وعدم التسليم بعبارات مثل (أول، أكبر..) وغيرها من أدوات توفرها نفس الموسوعة.
هناك مقالات محمية جزئياً بحيث يمكن للمسجلين فقط إجراء التعديلات، مثل مقالة الصحابي (معاوية بن أبي سفيان)، وهناك طريقة للتحقق من مصادر المقال في (اعرض المصدر) أو النقاش المثار في (نقاش) أو تاريخ إنشاء وتعديل المقال في (تاريخ)، وأيضاً هناك كتاب مشاركون أكثر ثقة من غيرهم، وهناك تقييمات تضعها إدارة الموسوعة على بعض المقالات للإشارة إلى مستوى جودتها أو العكس.
النص التاريخي عموماً يواجه نفس أزمة الحاجة إلى الشك أياً كان مصدره، فأول وسائل التحقق من قراءة التاريخ هو استخدام المنطق والإلمام بالمغالطة الأشهر، وهي مغالطة الاحتكام لسلطة الجماعة (الأغلبية تقول ذلك إذاً هو صحيح)، فهناك تساؤلات يجب أن تطرح عن مدى تخصص أو إدراك هذه الجماعة بالموضوع، وما هي دوافعهم القومية أو الدينية أو العلمية، وممن نقلوا النص؟ وهل توصلوا إلى نتائج أصيلة؟ وكيف كان ذلك؟! وماذا لو كانوا مخطئين؟ أو ماذا عن الرأي الآخر؟!
أشهر المقالات المزيفة في ويكيبيديا العربية هو مقال (فخري باشا) وهو أحد غزاة الجيش العثماني التركي للمدينة المنورة، وقد طرده أهالي المدينة بعد مقاومة مصيرية رغم فارق الخبرة العسكرية، وذلك بسبب بطشه وإجرامه بالسكان وسرقته لثروات المدينة مع جيشه التركي، وهو قائد جريمة (سفر بلك) الشهيرة، والتي قامت على البطش والخطف لسكان المدينة لقسرهم على خوض الحرب التركية العثمانية، ولكن عند قراءة المقال حتى هذه اللحظة فسنجد بأنه (نمر الصحراء) و(أمير المدينة المنورة)، ويوصف بعبارة (اشتهر بدفاعه عنها عندما قامت قوات البدو بمحاصرتها)، رغم أن من يوصفون بالبدو هم أهل الجزيرة العربية، ولم تكن تتعرض المدينة المنورة لأي غزو أجنبي خارجي باستثناء الغزو التركي العثماني، ولذلك فقد عادت المدينة المنورة لسكانها الأصليين واستمرت حتى اليوم بسبب انسجامها مع أصولها العربية.
بعد إعادة تغريد الشيخ عبد الله بن زايد الشهيرة لتغريدة جريمة سفر بلك، وبعد هياج الأتراك برئيسهم مما حدث، تعرض مقال ويكيبيديا لصراع جديد انتهى بإغلاقه في 24 ديسمبر 2017 من خلال مستخدم إداري اسمه (باسم) وعلق بقوله (المقالة أصبحت مرتعًا لتسجيل المواقف السياسية والميل العلني للتصريحات الإماراتية! لِذلك فقد استرجعت نسخة قديمة مُستقرة منها وجُعل تعديلها مقصورًا على الإداريين فقط. الرجاء عدم التستر بالحيادية لتمرير آراء يميل لها فلان أو فلان).
تجاهل المستخدم عدة مشاركات في النقاش للمطالبة بالحديث عن جريمة سفر بلك، والتي لم ترد في المقال، ولكي نفهم ماذا يحدث في ويكيبيديا فلا بد من العودة لتاريخ المقال وكتابه. حيث إن بداية كتابة المقال كانت في النسخة الإنجليزية عام 2007، وكانت معلومة مختصرة عن الشخصية لا تحتمل أي تأويل سياسي أو مذهبي لكاتب باكستاني مسلم، أما النسخة العربية الأولى فكانت أيضا مختصرة ودون أي تأويلات سياسية أو مذهبية في العام 2009 لمعرف اسمه (بندر سليهم)، غير أن تعديل المقالين استمر لسنوات حتى وصل إلى الشكل الحالي.
الشخصية الأهم في المقال هو الإداري (باسم) وعند الدخول إلى حسابه فهو يعرف نفسه بأنه من لبنان وبأنه على مذهب أهل السنة والجماعة، وضد الليبرالية وضد الشيوعية، وكتب بأنه (هذا المستخدم يتمنى عودة الخلافة الإسلامية العادلة ولا ينتمي لحزب)، و(هذا المستخدم مهتم بتاريخ الدولة العثمانية)، و(هذا المستخدم يحترم رجب طيب إردوغان باني نهضة تركيا الحديثة)، و(هذا المستخدم يرى الثورة السورية أعظم ثورة في التاريخ)، والأهم هو أيقونة تحمل العلم التركي تتضمن (هذا المستخدم ذو جذور تركية)، ورغم ذلك فقد أضاف تعريفا في أيقونة بعبارة (هذا المستخدم يحترم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان).
خلاصة ما سبق هو أن هناك خللا في ويكيبيديا يعبر عن العديد من الأزمات، منها توهم الموضوعية والعجز في فصلها عن المواقف السياسية والمذهبية، وكذلك الأحلام المثالية الساذجة عما يطلق عليه بدولة الخلافة، والاعتقاد بأن السلطنة العثمانية كانت تنشر العدل وتصنع العمران وتوزع الورود ولم يقاومها إلا الأشرار والشياطين، مع الجهل التام بالحقائق التاريخية وكيف أن أبناء الجزيرة العربية خاضوا معارك مصيرية مريرة مع العثمانيين استمرت لقرون، وعاش معهم العرب في عصور الانحطاط، وعجز الترك طوال أكثر من 400 سنة عن الإسهام في الحضارة الإنسانية أو التأثير في ثقافات الأمم، مقارنة بما فعله العرب من قبلهم، فسقطت إمبراطورتيهم الشاسعة وانتهت إلى دولة صغيرة نمت اقتصادياً بتوصيات البنك الدولي وتحت وطأة الحاجة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فتوهم المهزومون والباحثون عن مزيد من الهزيمة أنها أصبحت دولة عظمى ستقود العالم.
ويكيبيديا نبع إنساني للمعرفة، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة المجتمعات الثرية بالمعرفة، ولكنها أيضاً لم تخلُ مثل أي موسوعة في العالم من الدوافع الإيديولوجية لكتابها، ولن تتخلص بدورها من الصراعات الثقافية، ولن يكون هناك ما هو موضوعي خالص في قضايا مصيرية.