قرأت في إحدى الصحف قبل عقد وربما أكثر ما يفيد بأن وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» تسعى من زمن إلى جمع أكبر قدر من المعلومات عن الإنسان والحياة على الأرض، وإرسال نسخة منها كإشارات عبر الفضاء للبحث عن مخلوقات يمكن التواصل معها من جهة، وإلى وضع تلك البيانات والمعلومات في حافظات مدارية حول الأرض، خشية أن تفقد البشرية فجأة تاريخها نتيجة الحروب النووية المتوقعة في أي لحظة من جهة أخرى، وكان قد انطلق هذا التفكير مع اشتداد الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الشرقي الذي كان يتزعمه (الاتحاد السوفيتي)، والغربي الأميركي، وعاد العمل على ذلك بقوة للظهور في العقود الأخيرة نتيجة تسارع التطور التكنولوجي الهائل جدا الذي تشهده البشرية حاليا، إذ حذرت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، وتحديدا في الـ14 من فبراير الجاري، من الخطر المتزايد للهجمات الروسية الإلكترونية.. وأن واشنطن ليست لديها خطة واضحة لصد مثل هذه الهجمات؟؟!!
ضعوا فعلا المزيد من علامات الاستفهام والتعجب حولكم، فالتصريحات قادمة من أميركا التي يفترض أنها أهم اللاعبين على مستوى التكنولوجيا والأمن الإلكتروني.
لقد كانت ناسا محقة جدا وهي تفكر في الجزء الثاني من خطتها، فقد بنى الإنسان على امتداد تاريخه منذ النشوء وإلى هذه اللحظة عبر ملايين السنين، حضارته الكبيرة من خلال التراكم المعرفي والتجريب المتتالي للأشياء، ليصل إلى عدد مهم من مفاتيح المغلقات التي طالما استعصت على فهمه، وخاصة ما تحقق له من قفزات هائلة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وتحديدا في القرن الماضي وطلائع القرن الحالي.
وليس من الممكن أن يذهب كل ذلك هباء في لحظة مزاجية بشرية متهورة، أو ظواهر طبيعية قد تدمر الأرض.
اليوم يبدو أن الإنسان العبقري ذاته الذي صنع الحضارات العظيمة المتتالية، قد يكون سببا رئيسيا في تدمير حضارته الحالية والقادمة مستقبلا، إن لم يبتكر طرقا ناجعة لحفظها لتبقى معبرة عن إنسانيته مثلما نجح في محاولاته السابقة عبر تاريخه، وتمكن من نقل جزء منها إلى أجياله المتلاحقة، كما فعل المصري القديم (الفراعنة)، وكما فعلها قدماء اليونانيين والصينيين أيضا، حيث كتبت كثير من الأمم تاريخها ومنجزها على الحجارة والجلود والأخشاب، وهو ما كان متوفرا لها في ذلك الزمن، وتركت بعض إرثها -الذي قاوم ما تبقى منه- كل عوامل الطبيعة وتقلباتها، تاركة توقيع أنها مرت من هنا ذات يوم، لكن الإنسان اليوم يكتب تاريخه ويحتفظ به على القرص الممغنط أو الذاكرات الصغيرة بحجم ظفر إصبع سبابة طفل رضيع، وعلى مواقع الإنترنت الافتراضية، وكل ذلك يبدو غير آمن ومعرض للاندثار بنسبة كبيرة على الرغم من الكم الهائل للتدفق التدويني على اختلاف اهتماماته.
وعطفا على ذلك فالمتوقع دائما لدى المختصين في علوم الحواسيب والاتصالات، أن تحدث فجوة معرفية في ذاكرة التاريخ البشري في المستقبل، وتذهب تدوينات وعلامات أمم كاملة كأنها لم تكن يوما على الأرض، نتيجة خطأ تقني، أو برمجة غير موفقة، أو قرصنة موجهة، وتتسبب في محو كل أو جزء من إرثها الحضاري. وهنا تكمن إحدى أكبر مخاطر التكنولوجيا على المنجز البشري وعلى نفسها أيضا.
ويشارك في ازدياد القلق على هذا الجانب، ضعف البنى الأمنية في قواعد تصميم معظم برامج التواصل الاجتماعي الحديثة، التي اعتمدت على الدراسات النفسية للمزاج الشخصي للإنسان، وهي النقطة الأكثر ترجيحا لاختفاء مذكراته الشخصية، أو حضورها مثلا في أية لحظة بحسب الحالة النفسية للشخص، ويمكن ملاحظة ذلك في تصميم عدد من البرامج مثل «سناب شات» الذي يدون اللحظات في عشر ثوان ويمحوها بحسب برمجية أساس وجودها هو المزاج الشخصي للمستخدم، وهو ما تشتغل عليه وتراعيه تصاميم أجزاء كثيرة من برمجيات العصر والمستقبل.
لذلك فإن أخطر ما يمكن أن تقوم به البشرية مستقبلا تجاه منجزها الحديث، يتمثل في الذهاب إلى أبعد من نقطة الحفظ الافتراضي وتسليم كل شيء لمزاجية الإنسان، إذ قد تفقد يوما ما كل شيء دفعة واحدة، وفي لمح البصر، والاحتمالات مفتوحة على مصراعيها في هذا الجانب، نتيجة ميل المجتمعات البشرية إلى العالم الافتراضي أكثر من الواقعي.