عندما تعينت في إحدى المدارس الخاصة بمدينة جدة، سألني صديق لوالدي، «ماذا تعمل؟» فأجبته بأني أعمل
في مدرسة خاصة. وكنت حينها أعمل في إدارة المدارس، ولكني لم أرغب بتفصيل ذلك في إجابتي. فرد وقال «معلم! ليش ما لقيت وظيفة؟!». وعندها ابتسمت له، احتراما.
وبعد 4 سنوات، تعين صديق لي كمعلم في إحدى مدارس جنوب الرياض، وهو حاصل على درجة الماجستير
من أميركا بجانب خبرته السابقة كمعلم. ويقول، أريد أن أفيد الأجيال القادمة بما أستطيع من خلال التعليم. وفي استقباله في اليوم الأول من المباشرة، حدثه مجموعة من معلمي المدرسة برسالات تشاؤم عن سبب التحاقه بالتعليم محاولين إقناعه بالابتعاد عن التعليم واختيار وظيفة أو مهنة أخرى. وبعد ذلك، حدثه قائد المدرسة بنفسه، لا بالتحفيز أو التوبيخ عن فعل زملائه، ولكن بالتأكيد على ذلك ليضيف غيمة سوداوية عن حال التعليم والمدرسة، وأنه ينتظر التقاعد. وأخيرا، جاءه وكيل المدرسة ليقدم له ما أسماها بخدمة، وأنه يريد مساعدا له بالوكالة، فمتى ما رأى أن يترك الصف، فهو مرحب به بالوكالة كمساعد.
أكتب هذه المقالة وفي قلمي حسرة على ما آلت إليه الأوضاع في نظامنا التعليمي وفي مهنة التعليم. ولكن الشكوى دون عمل لن تحقق الرجاء. المجتمع يحترم مهنة التعليم، ولكن من كثرة القصص التي نسمعها عن التعليم، وكأن وظيفة التعليم أصبحت ثقيلة على الميدان. «المعلم هو الركيزة الأساسية للتعليم» و«المعلم هو المؤثر الأكبر في تحصيل الطالب» عبارات تتردد من المسؤولين فَقَد الميدان معناها، فأين أصبحت الصورة الذهنية عن مهنة التعليم اليوم؟
لا أعتقد أن أي مبادرة لتحسين الصورة الذهنية ستنجح إن لم تكن من الميدان نفسه. وأعتقد أن مشاركة الميدان في هذه المبادرات ستكون ثقيلة جدا إن لم يشعر صدقا بالأمل في وجود أي تغيير. الإساءة إلى مهنة التعليم لا يقبلها أي ولي أمر أمَّن ابنه عند معلم، ولا يقبلها أي معلم يعمل نهارا وليلا ليقدم أفضل ما لديه، ولا يقبلها قائد مدرسة يعمل ليغرس الحماس والتفاؤل والعمل الجماعي في مدرسته، ولا يقبلها المستقبل الذي ينتظر من هذه المهنة المزيد حتى يواصلوا تطويره وإعادة تشكيله.
تحسين الصورة الذهنية حول المعلم يتطلب وقفة جادة لإعادة تنظيم المهنة، وتوجيه الأنظمة والسياسات لتمكن المعلم القادر على أداء مهنته، وتدعم المعلم المتعثر بالتدريب، وتحاسب المعلم المسيء. مخرجات التعليم نتاج معلمينا، ومعلمونا نتاج أساتذة كلياتنا التربوية والعلمية، وهم بدورهم نتاج نظامنا التعليمي. تحسين الصورة الذهنية ليس توجها إعلاميا فحسب، إنما هو توجه نظامي وتربوي. وأقترح لتحسين الصورة الذهنية ثلاث مبادرات ذات أولوية تتابع من أعلى الهرم ويسخر لها كل الإمكانات الممكنة، ويعين عليها المتميزون في إدارة المشاريع المشهود لهم بالإنجاز:
أولا: إعادة بناء الأنظمة والسياسات التي تخص مهنة التعليم محورها تمكين المعلم.
ثانيا: خفض أعداد كليات تخريج المعلمين والاستثمار ماليا وبشريا بسخاء في برامج الجودة.
ثالثا: تفعيل خطة طموحة للتطوير المهني للمعلمين تعتمد على الممارسة الميدانية والتطوير المستمر.
وبعد ذلك – أو خلاله – يمكن للتعليم تطبيق مبادرات تحسين الصورة الذهنية، فعندها سيشارك الميدان في تحقيقها من وقتهم وجهدهم وحتى مالهم. التكريم لا يكون في حفل مخصص لمنسوبي التعليم فقط، ولا يكون تغيير الصورة الذهنية بالتكريم فقط. المهنة تحتاج إلى إعادة بناء لتتواءم مع احتياجات العصر، تحديات الميدان، وقدراتنا البشرية.
إن ما آلت إليه مهنة التعليم تحتاج إلى وقفة حزم جادة، وإلى تسليط الضوء على الإنجازات. جنودنا على الحدود وجنودنا داخل المدارس يستحقون كل التكريم والتقدير، فهذا يحمي حاضرنا والآخر يبني مستقبلنا. نجاحهم نجاح للوطن، وكلاهما يستحق ويحتاح منا الدعم والتمكين والتدريب والتقدير الذي يمكنه من أداء مهامه في أفضل صورة.