لعلكم تذكرون يوم كانت «العصا» الوسيلة التربية الحاضرة والوحيدة في زمن مضى عند المعلمين، وكانت «الفلكة» التي ارتبطت صورتها بالمدرّس والمدرسة آنذاك إلى عهد قريب، ولم تكن الأساليب البديلة للعقاب حاضرة وقتها، بالرغم من أن المعلمين الرواد كي نكون منصفين لهم ومن تلاهم، امتازوا ثقافة وعطاء والتزاما، مع أن بعض من أعمارها اليوم ما بين «الأربعين إلى الستين» عندما تأتي على ذاكرتهم المدرسة والمدرسين الذين علموهم بالأمس، لا يستذكرون من زمنهم، إلا «العصا والفلكة»، وأنا وهذا رأيي، أرى أن ذلك نوع من الجحود، وقلة الوفاء لفضلهم، فكيف ينسى طالب الأمس كل ما قدمه معلموه له من تربية وتعليم، من منطلق حرصهم، وهم من عانى قساوة الظروف وصعوبة البدايات، ولا يتذكرون إلا «جلد» معلميهم لهم؟! على كل حال، مع تطور ميدان التعليم، ودخول الكثير من نظريات التعلم والتربية، وخضوع المدرسين لبرامج التطوير لأدائهم، وللتغيرات التي حدثت لأجيال اليوم، بفضل تعايشهم مع الأجهزة الذكية الإلكترونية، لم تعد «العصا مناسبة»، فكانت الأساليب التربوية البديلة عنها هي الأنسب، إلا أنه بالرغم من تعاميم الوزارة لمدارسها، وتوجيهاتها المستمرة للمدرسين بعدم استخدام أي وسيلة من وسائل العقاب الجسدي أو اللفظي تجاه الطلاب،

ما زلنا نصدم «بمقاطع فيديو» تظهر لنا جلادين لا معلمين «كما حدث مؤخرا في تبوك، مرة بالعصا ومرة بالكف على الوجه، ومرة بـ«اللي» وهو -قطعة من خرطوم للمياه- ظنا منهم أن العقاب الجسدي الوسيلة الأنجح في معالجة السلوكيات السلبية، أو الطريقة الجيدة التي يمكن من خلالها حث طلابهم على المذاكرة، وحل الواجبات، إن كان بقي هناك من المدرسين من يكلف طلابه بواجب منزلي على أهميته».

الحقيقة إن أسلوب العقاب الجسدي لم يعد مجديا مع وجود الوسائل التربوية البديلة في معالجة السلوكيات السلبية، وإيجاد دافعية نحو التعلم، وخلق بيئة تعلم تحترم آدمية الطالب، في حين أن «العصا» تعمل عكس هذه الأهداف التربوية، فالطالب المضروب سيتكون لديه شعور بالامتهان والإحباط، خاصة إذا ما عوقب أمام زملائه، وستحدث عنده فجوة في علاقته مع المعلم يصعب ردمها لاحقا أو ترميميها، والتربويون يعلمون أهمية العلاقة الصحية بين المعلم وطلابه داخل المدرسة في خلق مواقف تربوية وتعليمية تحتاج إلى تفاعل إيجابي يعتمد على استمرار التواصل المعرفي بين الطرفين، ولهذا فخبراء التربية والتعليم كثيرا ما يوصون المعلمين بالابتعاد عن العصا ولو حملها أمام طلابهم، وأن الأنسب لمكانتهم، وحفظ هيبتهم، أن يكونوا أبعد ما يكون عن أساليب العقاب الجسدي، والعقاب اللفظي الذي لا يقل سوءا وتأثيرا سلبيا على شخصية الطالب من العقاب الجسدي، فبينما يزول أثر العقاب الجسدي بعد دقائق، إلا أن العقاب اللفظي تبقى آثاره السلبية ما بقي الطالب يستذكر أن المدرس الفلاني كان يصفه بكذا، أو يلقي على سمعه من العبارات أمام زملائه كذا، إما سخرية أو تهكما أو نعوتا غير جيدة، ومع هذا الكلام كله قد نسمع من المدرسين من لديهم قناعة بالعصا أو ممن يتفق معهم وهم يستشهدون بالحديث «علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر»، إلا أن علماء الشريعة يرون سنده ضعيفا، وأن معناه يتنافى مع منهج النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي بُعث رحمة للعالمين، فمنهجه الرحمة بالإنسان والحيوان، والرفق في التعامل مع صغار الأطفال، ثم إن الله -عز وجل- في كتابه، وجّه نبيه إلى سلوك التعامل المثالي مع الناس فقال: «فبما رحمة من الله لنّت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، ولهذا أتمنى أن يفطن المعلم إلى أن الأساليب التربوية البديلة عن العقاب البدني أو اللفظي، أثبتت الدراسات التربوية أنها تبقي أثرا إيجابيا على الطالب، وتعالج السلوكيات السلبية بطريقة أجدى من وسائل العقاب الجسدي التي تهدم شخصية الطالب وتكسبه سلوكا عدوانيا، سينمو ويصبح مسلكه في التعامل مع الآخرين، ولا أنسى حينما كنت مشرفا تربويا لمدرسي الصفوف الأولية، أنه كان من أهم توجيهاتي لهم «لا تضربوا تلاميذكم» فهم في مرحلة سنية يحتاجون فيها من يراعيهم ويساعدهم لتحقيق النمو النفسي والعمري والانفعالي والعقلي، لإيجاد توافق بينها، كي تتحقق لهم عملية النمو المعرفي والنضج الحياتي الذي سيساعدهم على التعايش مع واقعهم خارج المدرسة، ولجعل بيئة المدرسة عندهم بيئة مرغوبة محببّة، يبقى لي في ختام مقالي أن أقول للمدرسين: إذا ما أردتم كسب محبة طلابكم واحترامهم، فاعلموا أن ذلك يتأتى لكم من خلال العطاء المخلص، والتعامل المحترم مع طلابكم، وباهتمامكم المعرفي بما تمليه عليكم رسالتكم التعليمية، من سمت وخلق والتزام وانضباط وحضور في المجتمع، بما يعكس مكانتكم كمربين ومعلمين لأجيال المستقبل في مجتمعكم، هذه السمات كفيلة بأن تزيد احترام طلابكم لكم، ولا يمكن «للعصا» أن تحقق لكم مكانة، وتحفظ لكم هيبة، وتذكروا قول معلمنا الأول صلى الله عليه وسلم «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه».