فيما يعد الإنسان كائنا اجتماعيا بطبعه ومجبولا على الخير، ينخرط الكثير من الأشخاص من مختلف الأعمار في الأعمال التطوعية، حيث تتنوع دوافعهم ومكاسبهم من هذا العمل، ومن هنا يتضح أن للعمل التطوعي مكاسب، سواء كانت مادية -وذلك نادر الحدوث- أم معنوية، فالأخيرة أُسيء توظيفها واستغلالها في مواطن عدة، منها تشغيل الباحثين عن العمل تحت مسمى متطوع أو متعاون دون حصولهم على أدنى امتياز من المنشأة أو المنظمة، وأستدل بتغريدة العزيزة د. ناهد باشطح هذا الأسبوع عندما قالت «استقالتي من عضوية مجلس إدارة هيئة الصحافيين لا تعني إلا أنني لم أجد نفسي في المكان، ولم أقدم شيئا للإعلامية السعودية كما كنت أحلم، ولا استطعت أن أنصف صحفيا ظلمته المؤسسات الإعلامية مثلا. بقية الأعضاء يجتهدون ويقدمون أفضل ما لديهم، وعملهم تطوعي دون مقابل، تمنياتي لهم بالتوفيق».

تسود في مجتمعاتنا العربية ثقافة خاطئة ومجحفة فيما يخص العمل التطوعي وحقوق المتطوعين، فيهيأ للشخص أن المتطوع يجب أن يقدم خدماته من الألف إلى الياء دون مقابل وأن المقابل الوحيد الذي قد يحصل عليه هو الأجر والثواب من الله، سبحانه وتعالى، إلا أن العمل التطوعي فن له أصول ومبادئ، وما يحدث هنا وفي العالم العربي أجمع ينم عن قلة الوعي بما يدور في سراديب المنظمات واستغلالهم للطاقات الشبابية وخبراتهم، بهدف زيادة الربح أو ببساطة الربح اليسير. لنفترض أنك تريد أن تبدأ تأسيس منظمة أو مشروع أو مبادرة -سمها ما شئت- فإن أول خطوة فعلية لا بد أن تكون التوظيف واستقطاب الخبرات، فعوضا عن ذلك يقوم صاحب العمل بنشر إعلان مبهرج فحواه «نبحث عن متطوعين أو متعاونين في مجال كذا وكذا»، فيستقبل آلاف السير الذاتية المؤهلة نظرا لارتفاع نسب البطالة في المملكة، ومن هنا (يطب ويتخيّر) ويشغّل المئات ويوظفهم «شبه توظيف» -لأن الشخص يقوم بجميع واجبات الموظف الرسمي دون حصوله على مرتب أو امتيازات-، وهذا استغلال واستنزاف للطاقات الوطنية وإساءة لأبناء وبنات الوطن. إن أسهل وأدق وصف للعمل التطوعي اليوم هو (البلاش كثر منه). فالواجب تعريف وتنوير المتطوعين بحقوقهم قبيل دخولهم هذا المجال، ومن أهم الأسس والمبادئ التي يتوجب على الشخص، سواء كان متطوعا أم موظفا لهم، هو مبدأ المردود المادي والمعنوي، وتوصيف ماهية العمل المطلوب بدقة وموازاته لماهية التطوع. لا أرى أن مسمى متطوع يندرج أو يتماشى مع إستراتيجيات الشركات أو المؤسسات والوزارات، فلكل منها سلم وظيفي يشغله الموظف المناسب وله حقوق وواجبات، أما اقتناص وتغرير الأشخاص تحت مسمى متعاون أو متطوع لحاجته المادية أو المعنوية، فأمر لا يصح. فالحاجة المادية والمعنوية قد تتلخص على سبيل المثال في حاجة شخص حديث التخرج إلى الخبرة لكي يستطيع التقديم على وظيفة أحلامه وهكذا. والأدهى والأمر أن رب العمل قد يتعدى على المتطوع بإلزامه بأعمال في غير اختصاصه أو فوق طاقته، أو يوكل له أعمالا لم يقم بها الموظف الرسمي، لأنه لا يستطيع أن يوكل إليه المزيد من الأشغال نظرا لوجود ما يحمي حقوقه.

الاستغلال قد يتعدى من استغلال المجهود والطاقة، وإلى استغلال الوقت، بعدم الالتزام بخصوصية المتطوع، فيتلقى الاتصالات اللامتناهية والأوامر المباغتة في كل زمان ومكان، وكأن الشخص قام ببيع روحه لأجل الحصول على تلك الإكليشة (الشهادة). إذن، ما المقابل الذي يعود على المتطوع من عمله التطوعي؟ الإجابة عن هذا السؤال تختلف باختلاف نوع العمل والجهة التي ينتسب إليها الشخص، فمن خلال عملي التطوعي في الكونجرس الأميركي الإسلامي مثلا حصلت على الكثير من المنظمة كتذاكر سفر «ذهاب وعودة»، أيضا إقامة مجانية في فندق راق ووجبات مجانية وبطاقات للنقل العام، كالباصات والقطارات، إضافة إلى حصولي على دورة تدريبية قيمة ومفيدة في المهارات القيادية ولقاءات في معارض توظيف في جهات كبرى، وما زلت أتلقى العديد من رسائل التوظيف من الخارج بسبب عملي التطوعي معهم. بالتأكيد انخرطت في العديد من الأعمال التطوعية عقب الكونجرس الأميركي الإسلامي، إلا أنني أضع على الدوام تلك المزايا أو بعضها نصب عيني، لأنني ببساطة أرفض أن يتم استغلالي، وكذلك يجب على كل شخص غض العود ألا تأخذه الحماسة الزائدة لتزجه في غياهب الاستغلال والمطامع الشخصية. ولنجعل شعارنا نشر ثقافة العمل التطوعي السامي والإيجابي عوضا عن ثقافة الاستغفال والاستغلال الرائجين.